gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
الاستكبار يتجذر بالدبلوماسية والعولمة والقانون الدولي
د.سعيد الشهابي

 قالت وزيرة الخارجية الامريكية الاسبوع الماضي خلال زيارتها لدولة الامارات العربية المتحدة في بيان اصدرته وزارة الخارجية 'نحن قلقون جدا ازاء بدء عملية هدم فندق شبرد في القدس'، وذلك تعليقا على القرار الاسرائيلي بهدم الفندق القديم الكائن في الجزء الشرقي من المدينة احتلته 'اسرائيل' عام 1967، وبناء مبنى مكون من طابقين لتوطين اسر يهودية.
اما بريطانيا فاكتفت بما قاله وزير شؤون الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا بوزارة الخارجية البريطانية اليستر بيرت إن الحكومة البريطانية 'تؤكد مجددا إدانتها الشديدة ومعارضتها لبناء المستوطنات الجديدة في القدس الشرقية'... وأن بلاده 'تعتبر مثل هذه الخطوات أحادية الجانب استفزازا'. ومن جانبها أكدت كاترين اشتون منسقة العلاقات الخارجية والأمنية بالاتحاد الاوروبي 'إدانتها البالغة للخطة التي تستهدف بناء مستوطنة جديدة غير مشروعة مكان الفندق'، وأكدت أن ذلك 'عمل غير مشروع بموجب القانون الدولي وعقبة أمام السلام في المنطقة'. ويمكن الاستطراد في الاستشهاد بمواقف الدول الاخرى حول هذه الجريمة. موضوع النقاش هنا ليس الجريمة الاسرائيلية، بل بما يوضح حقيقة المواقف الدولية ازاء القضايا الحساسة، بهدف تسليط الضوء على مصطلحات مثل 'الاستكبار' و'الدبلوماسية' و'الشرعية الدولية' وغيرها من المفردات ذات الصلة بتوصيف عالم السياسة والقوة والهيمنة. الملاحظة الدقيقة لهذه التصريحات تكشف انها جوفاء تماما، بدون روح او بعد عملي، ولا تمثل ضغطا حقيقيا على الجانب الاسرائيلي. ومن المؤكد ان سلطات الاحتلال كانت تتوقع، قبل ارتكابها الجريمة، صدور هذه التصريحات، وتدرك انها لن تتجاوز في اثرها فضاء الديلوماسية الدولية التي افرغت من جدواها، وتعلم ايضا ان الجهات التي تصدر تلك التصريحات لن تتخذ خطوة اضافية واحدة على الصعيد العملي ليس لوقف الجريمة قبل وقوعها فحسب، بل لاتخاذ اي اجراء عقابي بعد حدوثها. وهكذا تتحول 'الدبلوماسية' في عالم 'الاستكبار' الى وسيلة تحقق عددا من الامور: اولها اخفاء الحقائق عن الرأي العام، ثانيها: خداع الناس بكلمات جميلة المظهر، خاوية المحتوى، ثالثها: منع اي عمل مضاد لا يتناسب مع اجندة القوى الغربية المهمنة، رابعها: تكريس انماط حكم على دول العالم الثالث، عاجزة عن اتخاذ مواقف فاعلة ازاء القضايا التي تواجه مجتمعاتها.
ان مصطلحات 'القلق' و'الاستفزاز' و'الأسف' اصبحت من الناحية العملية صمامات تنفيس لمنع تفاقم الضغوط على الدول التي تسعى لايهام الرأي العام بانسانيتها وحيادها واعتدالها. وفي السياق نفسه، عبرت الجامعة العربية عن 'شجبها' العمل الاسرائيلي العدواني ضد الشعب الفلسطيني، هذا الموقف العربي 'الشجاع' يشبه الموقف الياباني الذي شجب كذلك هدم فندق شبرد. وتوالت تصريحات الشجب من كل زوايا العالم. ان عبارات 'الشجب' و'الشعور بالقلق' و'التعبير عن الأسف'، تتكرر يوميا من وزارات الخارجية لاغلب دول العالم، واصبحت المواقف في اغلبها، محصورة بهذه التصريحات. وهي تصدر عندما ترتكب 'اسرائيل' جريمة بحق الفلسطينيين، كاغتيال رموزهم ونشطائهم، او بناء المزيد من المستوطنات على اراضيهم، او هدم آثارهم التاريخية، او تهويد مدنهم وقراهم. كما تتكرر العبارات نفسها عندما يقوم نظام قمعي بقتل مواطنيه او تعذيبهم. فالقلق يصبح مساورا للحكومات وقد يدعوها للتعبير عن اسفها لما يحدث، او اصدار بيانات بشجبه. وهذا ما حدث عندما اغتالت الاستخبارات الاسرائيلية محمود المبحوح باحد الفنادق في دبي، وعندما تصاعدت الاضطرابات في تونس وقتل عشرات المتظاهرين في الاسابيع الاخيرة، أكد المتحدث باسم الخارجية مارك تونر أن 'الولايات المتحدة قلقة جدا حيال المعلومات التي تفيد عن استخدام مفرط للعنف من طرف الحكومة التونسية'. وقالت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون في بيان مشترك مع المفوّض الأوروبي المكلف بشؤون التوسيع ستيفان فول 'نعرب عن القلق من الأحداث في تونس في الأيام الأخيرة. ونستنكر بشكل خاص العنف وسقوط ضحايا مدنيين'.
وهنا يجدر مناقشة مصطلحات استعملت في اطار محاولات التصدي لذلك. ومنها مصطلحا 'الاستكبار' و'الاستضعاف'. ومع انهما مصطلحان قرآنيان في الاساس، الا ان استخدامهما انتشر خلال الثورة الاسلامية في ايران اعاد اليهما قدرا من الحيوية. لخص الامام الخميني ازمة العالم في الصراع بين 'الاستكبار' و'الاستضعاف'. فما هو هذا الاستكبار؟ اعتبر الامام الخميني ان الولايات المتحدة الامريكية تجسد ظاهرة 'الاستكبار' بشكل كامل بسياساتها وسعيها للهيمنة على الشعوب وكسر ارادتها والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها.
بدأ الاستكبار الحديث وجوده بارهاب العالم بالقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي، واستمر بعد ذلك من خلال حربي كوريا وفيتنام. وفي العقود الاخيرة، كرس الاستكبار ظاهرة 'الاستضعاف' باستهداف المنطقة العربية بحربين مدمرتين، اعتبرهما تجسيدا للحرب الالكترونية الحديثة. فكانت صواريخ 'كروز' التي اطلقت في حربي الكويت والعراق، والتي اطلقت من بواخر في البحر المتوسط والخليج، اشارة الى سقوط الحدود الجغرافية كعامل معوق بوجه قوة 'الاستكبار' وارادته. سعى هذا الاستكبار لاختزال الوجود البشري الى اصفار بدون قيمة. فما شهدته منطقة 'المطلاع' في الكويت من ابادة جيش منسحب، رسالة الى ان الاستكبار مصمم على بسط نفوذه داخل الارض العربية لمواجهة من يتحداه بشراسة منقطعة النظير. وتواصلت وسائل الاستضعاف في العراق لاحقا وافغانستان. وما الاستخدام المكثف لطائرات 'درون' التي تحصد ارواح الآمنين في المناطق الحدودية بين باكستان وافغانستان، وفي الصومال واليمن بدون طيار، الا مصداق آخر لهذا الاستكبار الذي تضاءلت الانسانية في قاموسه فاسترخص ارواح البشر وراح يقتلعها من الوجود اقتلاعا.
يدار عالم الاستكبار اليوم عبر 'دبلوماسية' تساهم في تكريسه وتثبيت دعائمه. هذه الدبلوماسية تجسيد للنفاق السياسي بأبشع صوره. فهي مصممة لحماية النظام السياسي المؤسس على ايديولوجية هذا الاستكبار، وتحول دون احداث تغيير في بنيته. ولتحقيق ذلك تأسست قواعد عديدة لضمان النتائج. فاستعمال القوة العسكرية محصور بالدول الكبرى التي تمخر اساطيلها البحار والمحيطات، لحماية ثغور نظام الاستكبار، وليس من حق الدول الاخرى استعمالها الا ضمن حدودها الجغرافية الخاصة. ومن يواجه هذه الهيمنة يصنف ضمن دائرة 'الارهاب' التي تهدر دم من يدخلها، وأخرى ضمن 'الدول المارقة'. ومن لا يساير الولايات المتحدة في استهداف 'الارهابيين' يعتبر منهم، وفق ما قاله الرئيس الامريكي السابق، جورج بوش. هذه الدبلوماسية لها آليات لا يملك مفاتيح تحريكها الا الدول الكبرى. فمجلس الامن لا يتحرك الا وفق توجيهات تلك الدول التي تملك حق النفض لافشال اي مشروع لا يخدم مصالحها.
والامم المتحدة منظمة شكلية لا تستطيع التحرك الا ضمن الفضاءات الانكلو- امريكية، وقد تتيح لبعض المستضعفين مساحة محدودة تستنفد قواهم بدون ان يكون لذلك أثر عملي ملموس. والامر نفسه يصدق على الاجهزة الدولية الاخرى كالوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تعمل ضمن أجندة النظام الاستكباري الرهيب. ويتذاكى هذا الاستكبار، بالتظاهر بتوفير منابر للآخرين، ورفع شعارات براقة لا تجد طريقها للتطبيق. وتطورت مصطلحات هذه الدبلوماسية لتصبح فارغة من المحتوى، على امل ان يحقق ذلك متنفسا للمظلومين يحول دون تحول مشاعرهم الى غضب مدمر يستهدف الاستكبار ودوائره. كما يهيمن هذا الاستكبار على الاقتصاد العالمي عن طريق هيمنته على المصارف وشركات الائتمان والبطاقات الالكترونية التي توجه جميعا لدعم المشروع الاستكباري، وعبر ظاهرة 'العولمة' التي تروج ثقافة الغرب ونظمه وانماط حياته. وقد اثبتت ثلاث قضايا حديثة مدى سلطة هذا الاستكبار. اولاها قضية السودان الذي استهدف في شخص رئيسه، ليصبح اول رئيس دولة تصدر وثيقة دولية باعتقاله، قبل تمرير مشروع تمزيق هذا البلد العربي الافريقي المسلم، تحت عنوان 'الاستفتاء'. ثانيها: تدويل قضية المشروع النووي الايراني كعنوان للنظام السياسي والايديولوجي الاكثر تحديا لسيطرة هذا 'الاستكبار'. فقد حركت كافة الاجهزة الدولية لمواجهة ايران، ابتداء بالامم المتحدة ومجلس الامن الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية، حتى بلغ الامر فرض الحصار المصرفي على ايران بمنع البنوك الدولية من التعاطي مع مؤسساتها المصرفية. وثالثها: ما حدث لمؤسسة 'ويكيليكس' التي قامت بنشر الوثائق الامريكية. فقد استهدفت هذه المؤسسة، فاغلقت حساباتها المصرفية، ومنعت شركات البطاقات الالكترونية من التعامل معها، وتجري مطاردة صاحبها جوليان أسانج.
في عالم اكثر نقاء وصدقا وشفافية تستطيع الشعوب استرداد بعض حقوقها بالوسائل السلمية عبر المؤسسات الدولية غير الموجهة لخدمة المستكبرين على حساب المستضعفين. ولكن لم يعد الامر كذلك في عالم اليوم. فالانظمة الحليفة للولايات المتحدة تعتبر الاكثر انتهاكا لحقوق الانسان والاشد تطرفا في الاستبداد وقمع الحريات، والاكثر استسلاما للارادة الامريكية. وهكذا يبدو الاستكبار العالمي الحاضر وجها آخر للشيطان الذي تتغير وجوهه واساليبه، ويمارس النفاق لتمرير مشاريعه، بالتذاكي تارة، والاستضعاف ثانية، واستحمار الآخرين ثالثة. وما اكثر الذين انخدعوا بمقولات 'المجتمع المدني' ومؤسساته و'الشرعية الدولية' و'آليات الامم المتحدة' كوسائط لتغيير انظمة الاحتلال والاستبداد والقمع. ولكن تجارب الفلسطينيين العديدة منذ ما يقرب من نصف قرن اظهرت فشل الرهان على تلك الوسائط. فمنذ ما كان يسمى 'مؤتمر جنيف' الذي طرح بديلا للنضال الوطني الفلسطيني بعد حرب 67 و'مشروع روجرز' في 1970 (نسبة لوزير الخارجية الامريكي آنذاك) حتى مؤتمر مدريد في 1991 واتفاقات اوسلو في 1993، لم يحدث تطور ملحوظ على مسار القضية الفلسطينية. وهنا تتدخل 'الدبلوماسية' لتخدير الفلسطينيين بالتعبير عن 'الشجب' و'الاسف' ازاء استمرار بناء المستوطنات الاسرائيلية، وكلها مصطلحات جوفاء، لان تلك الكلمات لم تصل قط الى مستوى الفعل واتخاذ خطوات عملية ضد الاستيطان. وقد فشل كل الرؤساء الامريكيين طوال نصف القرن الماضي في تجميد بناء المستوطنات، فضلا عن الغائها تماما. مع ذلك ما يزال بعض الفصائل الفلسطينية يعتقد بان حل القضية لن يكون الا من خلال الولايات المتحدة التي كان الرئيس المصري السابق، انور السادات، يقول انها تملك 99 بالمائة من اوراق اللعبة. والامر نفسه ينطبق على محاولات التغيير السياسية.
وهنا يبدو الموقف الانكلو ـ امريكي مؤشرا لعمق حالة النفاق السياسي. فعندما دعت هيلاري كلينتون الاسبوع الماضي امام منتدى المستقبل في قطر، القادة العرب الى الاصلاح السياسي، لم تكن المسؤولة الامريكية الاولى التي تطرح ذلك، بل سبقها جورج بوش نفسه.
جاءت دعوتها في اثر تفاقم العنف في تونس، والتراجع السياسي في مصر والاضطرابات في الجزائر والتوتر في البحرين، محاولة لاجهاض حركة الشارع العربي والتشويش على دعاة الاصلاح، واحتواء قوى التغيير بالاستمالة والتمييع. وها هي ثورة الشعب التونسي تجهض بشكل مروع، بتسليم الامور الى عناصر النظام البائد واظهارهم رموزا للاصلاح المنشود، وما أبعد ذلك عن الحقيقة. فطوال السنوات العشر الاخيرة أقنعت واشنطن حلفاءها بان الامن هو الركيزة الاولى لسياستها الخارجية، وان الديمقراطية امر غير مستعجل. وهكذا يتجسد الاستكبار في ابشع صوره عندما يتظاهر بالرغبة في الاصلاح، ولكنه من الناحية العملية يدعم الوضع الراهن، ويتصدى لمن يسعى لتغييره بشراسة، سواء مباشرة ام عبر وكلائه المحليين الذين يمارسون أبشع أساليب الاستئصال والقمع.
ولم يتحقق لأي من دعاة الاصلاح مجال التغيير الحقيقي من خلال المبادرات الامريكية، وربما وجد البعض نفسه مغفلا عندما افرط في 'الاعتدال' ولم يجن الا المزيد من تردي الاوضاع وتراجع الحريات وتعمق الاستبداد، وتعملق الاستكبار. ولذلك يمكن القول بان صراع الاستكبار والاستضعاف يتخذ في الوقت اشكالا شتى، ولكن جوهر هذا الصراع واحد عبر الاجيال. وقد اصبحت 'الدبلوماسية' و'العولمة' و'النظام الدولي' و'الامم المتحدة' و'القانون الدولي' اما داعمة للاستكبار مباشرة او ادوات تخدير واضعاف ضد مناوئيه. وما قصة الشعب التونسي وثورته الباسلة، والتآمر الدولي المتواصل لاجهاضها الا الحلقة الاخيرة من مسلسل المشروع الاستكباري ضد المستضعفين في عالم تحكمه قيم الشيطان وادوات الموت، وقيم الظلم والجور.
 

copy_r