gulfissueslogo
شركاء أم فرقاء
إشكاليات الوحدة والإنفصال في المملكة العربية السعودية (2)
د.خالد الرشيد

 من الواضح تماماً لكلّ من تسنّى له الإطلاع على تاريخ تأسيس المملكة، أن الصراع بين أقاليمها مختلفة الإنتماء والثقافة والتاريخ والخلفيّات الإجتماعية والإقتصادية، إنما كان يدور حول أمر واحد: السلطة وما يتبعها.
 
كان كلّ إقليم من الأقاليم يمتلك خاصيّة من نوع ما.. نقطة قوّة في الساحة السياسيّة.. أو تميّزاً من نوع ما يعوّض نواقص في جوانب أخرى، بحيث جاء تشكيل المملكة من نوع رائع وفريد.
 
إن خصائص الأقاليم مجتمعة تسدّ النقص في كل واحد منها، وتكسب الوحدة القائمة قوّة حقيقيّة في الساحتين الإقليمية والدولـيـّة.
 
لا يمكن للوحدة القائمة بين الأقاليم أن تبقى في غياب النفط، فقد كانت عائدات النفط (لحمة الكيان السعودي) على حدّ تعبير أكاديمي هارفرد ندّاف سفران.
 
ولا يمكن للمملكة ان تنال مكانة حقيقيّة في العالم الإسلامي بأجمعه في غياب الثقل الديني الذي تمثّله المقدسات الإسلامية في الحجاز.
 
وبالقطع فإن نجداً تمثّل الأداة السياسية الجامعة، وعنصر القوّة العسكري والسياسي في الكيان القائم.. في حين رفد الجنوب مختلف قطاعات الدولة بالعديد من أبنائه.
 
الخلـل لم يكن في تشكيلة البلاد هذه، بل على العكس فإن تنوعها نقطة قوة للمملكة.
 
الخلل كان ولايزال في نمط العلاقة بين الأطراف المشكّلة للوحدة.
 
لم تكن العـلاقة ـ بسبب ظـروف نشأة المـملكة والتي استعرضنا جانباً منها ـ علاقة شراكة في الحكم، باعتبار ان البلاد في واقعها تتشكّل من أقليّات مناطقيّة ومذهبيّة.. بل حكمت السيطرة والإستتباع والإستئثار العلاقة بينها وبين مركز الثقل السياسي والعسكري ـ نجد، مما جعل الصراع بينها في عهد الوحدة استكمالاً للصراع الذي كان قائماً قبلها، وإن بصورة مخففة قابلة للتطور نحو الإنفجار باتجاه الإنفصال.
 
لقد أصبحت نجد تمثل الأكثريّة السياسية في الدولة الجديدة، بل كانت هي الدولة في واقع الأمر، الأمر الذي ولّد شعوراً بالغُبن والحرمان لدى المناطق الأخرى.
 
وظهرت الدولة الوليدة بمظهر المحطم لكل خصوصيات السكان الذاتيّة، حيث أُعلنت الحرب الشعواء على الجميع.. وكأن رجال الحكم يريدون تكرار تجربة التوحيد الفكري والسياسي للقاعدة النجدية، وهي تجربة فريدة ومتميّزة ، ولكن تطبيقها على بقيّة المناطق، دون الإلتفات الى محليتها وظروفها الموضوعية الخاصّة بها هو من السقطات الكبرى في فهم المناطق.
 
كانت أمام الملك عبد العزيز فرصة تاريخيّة بعد امتداد حكمه الى الحجاز، ليبدأ بعد ان اخذ الإستيلاء على المناطق مداه، بإقرار منهج جامع يحتوي كل الإنشقاقات. لكن نشوة الإنتصار، وتركيبة الحكم القبلـيـّة، وتغليب المصالح المنظورة، حال دون تحقيق ذلك الأمر، واستمرت الحرب الفئويّة عنيفة جامحة، شارك فيها حتى أولئك الذين لا يهمّهم أمر الدين من قريب أو بعيد. لقد استخدمت الطائفيّة والمناطقيّة كوسيلة من وسائل احتكار السلطة والصراع عليها.
 
النخبة النجدية في أغلبها تتحرك وفق أُفق جمعي، كحزب سياسي ينتمي إليه كل أولئك المؤمنين بتسويد نجد مذهباً وفكراً وسياسة وعسكراً، وكل أولئك المنتمين بالولادة والذين تتوفر لديهم مشاعر التضامن وضرورة الحفاظ على المكتسبات التي هي في اليد، ومواجهة العصبيّات المنافسة في الأقاليم الأخرى.
 
ولا يشذّ الشيعة في الشرق ولا الحجازيون في الغرب في تحركهم كحزب عن النجديين.. فهم في واقع الأمر يتحركون كحزب أو أحزاب معارضة، قبالة الحزب النجدي الحاكم، وينضوي تحت لواء احزاب المعارضة، بمعناها المناطقي والمذهبي الواسع، كل أهل ذلك المذهب وتلك المنطقة، يعزّز نشاطهم الشعور الجمعي بالحرمان، والدفاع عن الذات، لأن التقسيم القائم في البلاد بقدر ما جعل هناك جماعة حاكمة، دفع الى الزاوية الحرجة الجماعات الأخرى، والتي لا يشفع لها وعيها ولا مكانتها ولا كفاءتها في إيقاف الضرر النازل بها، لمجرد كونها تنتمي الى جهة غير حاكمة.
 
إن التنافس أو الصراع القائم بين المناطق هو تنافس في حقيقة الأمر على السلـطة.. وإن بروز الإنتماءات وتعمّقها الشديد، يستهدف توزيعاً عادلاً للسلطة، وللثروة في آن.
 
لقد أُقصي منذ البدء أهل الجنوب والشرق وشمال نجد ـ حائل ـ كما شمال الحجـاز ـ تبـوك ـ عن السلطة تماماً، ويشعر الحجازيّون أنهم شركاء دونـيّون فيها، ويرون أنّهم يستحقون أكثر مما في أيديهم.
 
أهم خطوات الحل هي: إعادة توزيع السلطة ـ الشراكة السياسية ـ وتحويل الدولة الى دولة للجميع، وتوسيع إطار العصبيّة بحيث تذيب معها العصبيات الجزئيّة الأخرى بإيجاد عصبيّة وطنيّة تفرض التساوي بين المواطنين، وتفسح المجال للتعبير عن الهويّة أنّى كان شكلها شرط أن لا تتجاوز المحرمات الوطنيّة.
 
هذا الحلّ يبدو صعب المنال في الوقت الحاضر.. إذ أن مجرّد الإعتراف بالحقوق المبدئية للمواطنين في المناطق الأخرى للمملكة لم يتحقق.. فهم غير مسلمين في الأساس من وجهة نظر المذهب الرسمي، وهناك من يدعو بينهم وبشكل دائب الى قتلهم أو قتل بعضهم ونفي الآخرين، ومن المحرّم على أيّ منهم التعبير عن خصائصه.
 
إذا كان الوضع في هذا الوقت بمثل هذا السوء ولم تتحقق حتى الخطوة الأولى بعد مرور نحو ثمانية عقود على توحيد البلاد رسمياً.. فإن الدعوة الى الشراكة السياسية وإعادة توزيع مراكز القوى والقرار، وإشراك أكبر عدد من أبناء المناطق الأخرى فيـه، يعتبر ضرباً من الخيال، برأي الكثير من القيادات المحليّة والمذهبية الأخرى، رغم أن المنتفع الأول من ذلك هم رجال الحكم أنفسهم.
 
 

 (1) الديمقراطية والوحدة


 
 
إذا كان توحيد المملكة قد تمّ بطريقة أفضت إلى سيطرة أقليّة نجدية على مقدرات البلاد فصار من الصعب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لتغيير الطريقة التي تمّت بها عملية التوحيد..
 
وإذا كان من الصعب أو شبه المستحيل أن تقوم الأقلية النجدية، والوهابية السياسية، بتصحيح أو تعديل الوضع لصالح الوحدة ولصالح الشراكة ولصالح التكافؤ بين المواطنين واندماجهم..
 
فهل يمكن أن تكون دعوة إلى الديمقراطية حلاً للمعضل بحيث تنقذ المنتفعين من حالة الجشع التي يعيشونها، وتنقذ المملكة من الإنشقاق، وتوفّر لسكان المملكة جميعاً المساواة والعدالة وقدراً معقولاً من الحياة الكريمة في جوانبها الماديّة والمعنوية؟.
 
ولكن قبل الإجابة على هذا، لماذا لم تنشأ حركة ديمقراطية في السعودية؟. لماذا لم ينشأ إحساس وطني بين النجديين أنفسهم وبين الحجازيين وبين بقيّة السكان ليدافعوا عن وطنهم وعن المظلومين فيه أنى كانت هويتهم؟.
 
هل الديمقراطية الليبرالية مخيفة لبلد كالسعودية؟ هل حدّا معقولاً منها كالذي نجده في الكويت خطير لأنه يقلّص من احتكار المنتفعين للسلطة، أم لأنه يقود إلى تفكيك البلد كما يعتقده البعض، أم الإثنين معاً؟.
 
بعض أقطاب الوهابية السياسية يعتقدون أن السعودية كدولة قد تستمر مع الديكتاتورية والتمييز المناطقي والعرقي والقبلي والطائفي، بأكثر مما يمكنها أن تكونه مع هامش معقول من الديمقراطية والمساواة. وهذا الرأي الميكيافيلليي يتمّ تبنيه على أرض الواقع بغض النظر عن الخلفية التحليلية له.
 
الديمقراطية قد لا تلعب دوراً توحيدياً مع أنها على الأرجح قادرة على خلق قاعدة ثقافية وطنية مشتركة. هذا من حيث المبدأ.
 
قد يقال وهو صحيح أن المناخ الديمقراطي يوفّر في كثير من الأحيان الأرضية المناسبة لنمو الإنشقاقات حتى في عقر البلدان الديمقراطية الغربية نفسها. وهناك عشرات الأحزاب والجماعات السياسية تدعي الديمقراطية ولكن برامجها تجزيئية طائفية. في الهند حزب جاناتا بهاريا، وفي فرنسا حزب الجبهة الوطنية، ولكن مهما كانت الديمقراطية معيبة وناقصة، فإنها تؤدي في الغالب إلى تخفيف الإختلافات الدينية والأثنية، كما هو ملاحظ في الكويت وفي الأردن والمغرب وحتى مصر.
 
غير أن الحريّة المتأخّرة، والمساواة المتأخّرة، اللتان تأتيان عن غير قناعة وإنما تفادياً للإنشقاق والإنفصال.. إنما يشكلان في الحقيقة حلاً متأخّراً، والحلّ المتأخّر لا يثني مطالب الإستقلال أو تقرير المصير أو الإنفصال والتي تكون قد تجذّرت وترسّخت، فإذا ما جاءتا عدّتا دلالة ضعف للنظام، فيستفاد منها في تحقيق المطالب الأصليّة، ويعتبر الإصرار عليها دلالة نجاح فـ (الحكومة تنازلت).
 
الديمقراطية أو نصفها جيدة الآن في بلد مثل السعودية.. هي حلّ استباقي، ولكنها ليست دواءً ناجعاً بعد أن يتغلغل المرض.. الديمقراطية حينها تكون بما تتضمنه من مبادئ حريات وحقوق بمثابة المسامير التي تدقّ نعش الدولة.
 
لماذا لم تقبل الديمقراطية في نجد؟
 
من المستغرب حقاً أن قلة نادرة في نجد من زعاماتها وقياداتها وأصحاب الرأي فيها، دعا الى الديمقراطية. فإذا كانت العائلة المالكة لا تريدها فلأنها تقتطع شيئاً من سلطانها، إن لم يكن أمراؤها ينظرون اليها كمهدد لعرشهم، أو في الأقل مقلّص لصلاحياتهم.
 
وإذا كان الوهابيون، المتدينون باعتدال أو بتطرف، لا يريدون الديمقراطية، فلربما وجد لهم بعض العذر أو بعض الحجج، فالديمقراطية بالنسبة لهم كفر وإلحاد، ومخالفة لشريعة الله!
 
لكن بأيّ حجّة وبأيّ وجه وعذر يمكّن للنخبة النجدية اللبرالية أو العلمانية الأخرى أن تبرر رفضها للديمقراطية أو الليبرالية، كيف ترفض الحرية والإنفتاح والمشاركة الشعبية؟.
 
هناك حجّتان، الأولى والتي يعلن عنها عادة، وهي أن الإنتخابات ستأتي بـ (المتطرفين) الدينيين، والمقصود بهم هنا هم المتطرفون الوهابيون، ولكن النجدي لا يتعرض للوهابية باعتبارها أحد تشكيلات هويّته. بمعنى أن الوهابية لم تعد بالنسبة للنجدي العلماني مجرد مذهب بل هويّة سواء كان التزم بتعاليمه أم لا؟.
 
إذن الديمقراطية، بالنسبة لهذه الفئة خطيرة لأنها تغلّب المتدين النجدي المتطرف على العلماني النجدي المعتدل ضمن جهاز الدولة. وبعبارة أوضح، إن الديمقراطية بالنسبة للنخبة النجدية العلمانية ـ وفق هذه الحجة الظاهرية ـ ليست خياراً في الأصل، ولا تدعمها قناعة إذا ما تعارضت مع المصلحة الخاصة.
 
ومع هذا، لماذا لا يطالب العقائديون الوهابيون بالديمقراطية لتعزيز موقفهم ضدّ من يسمّونهم بـ (العلمانيين)؟.
 
هل السبب أنهم يرون أن الحكم السعودي أكثر إنسانية من الحكم الديمقراطي؟. وهل الحكم الذي يأتي بالمواصفات الوهابية من وراثية وملكية مطلقة يمثّل الإسلام وقيمه؟ أم لأنهم أهل الحل والعقد؟
 
إذا جئنا للتفصيل، فإن علماء الوهابية فحسب، وأمراء نجد فحسب هم أهل الحل والعقد. لو أزحنا صفة (النجدية) عن العائلة المالكة السعودية، ترى ما الذي يفرقها عن أي حكم في البلاد العربية، ملكياً كان أم جمهورياً؟. لولا صفة (النجدية) ما عدّ العقائديون آل سعود: أمراء! مثلما هم لم يعدّوا علماء الحجاز السنّة وعلماء الشيعة والسنة في الشرق من بين أهل الحل والعقد.
 
الجوهر هو أن الوهابية السياسية التي تلم هذه الأطراف جميعاً لا تريد شركاء من خارج نجد بأي إسم كان، ديمقراطية كانت أو حريّة أو وحدة. إذا كان هناك من تنافس فليكن بين النخبة النجدية عامة، بغض النظر عن الإيديولوجيا التي لا تستخدم هنا إلا نادراً، ولكن ما أن تطرح الديمقراطية حتى ترى الأغلبية رافضاً لها. هناك اتفاق على أن الحكم شأن نجدي، والديمقراطية توسّعه إلى مناطق أخرى، وهذا خط أحمر.
 
يوم اختلفت النخبة مع جناح من العائلة المالكة، أسس النجديون حركة سمّوها (نجد الفتاة) غرضها إعادة توزيع السلطة بين النخبة النجدية، أو بالأصح الضغط على العائلة المالكة لتعطي النخبة النجدية شيئاً مما بيدها.
 
ويوم اختلف الوهابيون مع العائلة المالكة في بداية التسعينيات، لم يطلب هؤلاء في مذكرتهم (مذكرة النصيحة) بانتخابات أو حريات أو حقوق للمناطق الأخرى مادية أو معنوية، إن كانوا يتعففون عن ذكر الديمقراطية، مع أن الموقعين عليها هم نخبة نجد المعتدلة والمتنورة والمتطرفة في آن. لم يطلبوا إزاحة آل سعود باعتبارهم حكاماً فاسدين أو كفاراً بنظر بعضهم. ما طلبوه هو زيادة حصتهم من الحكم ضمن الترويكة النجدية الداخلية. أن يكون لهم صوت في الخارجية، وأن تزاد صلاحيات الهيئات، وأن تزاد التخصيصات لنشر المذهب في الخارج والداخل. ولذا لم يطلبوا أحداً من الخارج العقائدي أو المناطقي ليوقع عليها، مع أنه جرى نقاش مثل هذا الأمر في أوساطهم، ولكنهم اعتبروها في نفس الوقت ممثلة لكل الشعب بل ولتطلعاته أيضاً، وفي هذا لم يكونوا من الصادقين.
 

الديمقراطية بالمنظار النجدي المتطرف: أداة لتفتيت سلطة نجد.


 
بالديمقراطية سيكون التمثيل الشعبي لسكان المملكة غير النجديين أكبر بكثير من تمثيل النجديين في أي برلمان منتخب.
 
وبالديمقراطية والحريات سيبدو المذهب الرسمي والمسلك الديني العنيف منبوذا من الأكثرية، ولن يعامل بالإحترام القائم على الخوف والترهيب.
 
وبالديمقراطية تتعدد المنابر الإعلامية، وتتعدد الآراء، وتتشكّل المصالح، ويستبان الرأي.
 
لن نجد وزارة تحتكر منطقة واحدة أكثر مقاعدها في حين لا يوجد فيها تمثيل لمناطق أخرى. ولن يُسمح لرؤساء المذهب الرسمي باحتكار الفتيا، واحتكار الجامعات الدينية، واحتكار المناهج التعليمية، كما لن يسمح لهم في ظل الحرية التعدّي على حقوق المواطن الأساسية في العبادة والإعتقاد.
 
ترى هل هناك كثيرون من الطبقة الحاكمة أو المستفيدة منها يقبل بهكذا نوع من الديمقراطية، أو حتى نصفها ؟!
 
أليس هذا سبباً كافياً لاعتبارها كفراً وإلحاداً وضدّ شرع الله، أو هي بالنسبة للعلماني أداة اختراق غربي للمملكة! وهل المملكة ومسؤولوها غير مخترقين من كل الجوانب والجهات ومنذ اليوم الأول لتأسيس الكيان القائم؟!
 
بين النخبة المسيطرة اليوم من لا يرى إمكانية للتراجع عن حق احتكار السلطة، وأن المملكة وصلت إلى وضع سيفضي أي تنازل سياسي من قيادتها إلى تفكيكها، تماماً مثلماً يقول ميكيافيللي، وبالتالي فإن الحل هو الإستمرار في الخطأ لأنه فات أوان إصلاحه.
 
يقول هؤلاء، وهم ليسوا قلّة: بدون ديمقراطية ما كانت تشيكوسلوفاكيا لتصبح دولتين بمثل تلك السرعة. وبدون غلاسنوست غورباتشيف ما كان الإتحاد السوفياتي ليصل إلى الإنهيار التام، ولتأخّر موته على الأقل.
 
الديمقراطية علاج ناجع للأمراض غير المستعصية، أما المستعصي منها فإن الديمقراطية كفيلة بقتل حامله بدل أن تطيل عمره.
 
نعم الديمقراطية خطيرة، إذا كانت دواءً لمريض في أواخر أيامه، ولكن لا يبدو أن ذلك يصدق على السعودية في الوقت الحاضر، مع أن بعض النخب المنتفعة تعتقد ذلك.
 
أسوأ سيناريو يمكن تخيله، والذي يدور في أذهان قسم من النخبة المسيطرة يقول بأن التحول نحو الديمقراطية يبدأ منذ الخطوة الأولى، حيث تبدأ مع (اللبرلة) حيث الحريات الاعلامية، وحرية تأسيس الأحزاب، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. لو حدث ذلك سنجد عشرات الصحف والمجلات التي تتحدث باسم الطائفة والمنطقة والقبيلة ولن نجد إلا القليل منها يتحدث عن الوطن والوحدة، وسنجد الأحزاب أيضاً تعبّر عن التقسيمات المناطقية والمذهبية. وحرية النشر ستساعد في تعميق الفواصل بين الجماعات المذهبية والمناطقية، كما ستساعد على توثيق وتعميق الروابط القبلية والمناطقية والمذهبية، وستكون المحفّزات الإقتصادية تابعة لهذا التقسيم، وسيكون التنافس واضحاً على هذه الأسس.
 
إن اللبرالية الإعلامية من هذا المنظور هي الخطوة الأولى نحو نهاية الدولة وتفكيكها، وإن حريّة الإعلام وحدها كافية لأن تهزّ الدولة من أعمق أعماقها.
 
إذن لن يكون هناك سوى صوت الوهابية، وإعلام المنطقة الغالبة، وثقافة القبيلة. لن يكون هناك من حزب سوى الحزب المسيطر، ولن تكون هناك من عقيدة سياسية سوى الوهابية السياسية. ترى من يقول بأن ما يخشى منه والذي ذكر في الأسطر السابقة يجري على أرض الواقع بصورة مصغّرة على الأقل؟.
 
أليست الصحافة السعودية صحافة مناطقية؟. ألا يوجد إعلام طائفي خاص بالوهابية السياسية وحدها؟ ألا توجد مؤسسات إعلامية وتعليمية خاصة بالوهابية وحدها؟ ألا يغلّب معظم المواطنين الإنتماءات القبلية والمناطقية والمذهبية على الإنتماء للوطن؟ أليست الوزارات متقاسمة وكذا الجامعات والمؤسسات الحكومية يجري تقاسمها وفق الأسس التي يخشى منها؟
 
ويمضي السيناريو المخيف قائلاً: ما يعقب اللبرلة الإعلامية يأتي تشكيل الدستور وانتخاب برلمان، وإذا ما حدث ضمن أي صورة وطريقة كانت، فإن المنتخَبين لن يكونوا سوى دعاة المناطقية والقبلية والطائفية. لن يكون هناك صوت وطني بالمعنى الحقيقي. الحجازي لن ينتخب غير الحجازي، والنجدي ميوله السياسية معروفة، وكذلك الجنوبي والشرقي والشمالي.
 
ورغم هذا كله، وحتى لو حدث فإنه ليس مخيفاً كثيراً ، لأنه أولا نتيجة لأخطاء ماضية، وثانياً لأن الانتخابات في أحد أبعادها تعبير عن مصالح فئات وجماعات ومناطق. نعم إن الوطنية تُبنى في المستقبل، ولكنها في الوقت الحالي غائبة، وستبقى غائبة إلى أن توجد الديمقراطية التي تخلق الأسس الأولية لنموّها.
 
أما الدستور، فإذا ما أُقرّ بالإقتراع العام، فإنه لن يكون بالقطع (مناطقياً) وإذا لم يرض الميول والنزعات فيؤطّرها في الوعاء الوطني، ويمنحها الشرعية، فإنه لن يحوز على رضا الجمهور في أي اقتراع شعبي.
 
النتيجة هي: أن الديمقراطية بما تتضمنه من حق الإنتخاب قد تغري دعاة الإنتماءات الصغرى (الطائفية والقبلية والمناطقية) إلى دغدغة مشاعر الجماهير وتكتيلها ضمن المشروع السياسي، خاصة وأن هناك فوائد ملحوظة وهي أن الإنتخابات تؤدي إلى (تحصيص) منافع الحكم.
 
وفي الجملة..
 

ليست العائلة المالكة وحدها من يرفض الديمقراطية والحريات.
 
وليست العقائدية الوهابية من يحرّمها فحسب.
 
بل إن النخبة الحديثة المتعلمة أيضاً في المنطقة المسيطرة ترفض الديمقراطية لأنها لا تريد إشراك أحدٍ من خارج منطقتها في السلطة.


 
وإذا كانت هذه القوى وهي فاعلة للغاية، لأنها تدير جهاز الدولة بمجمله، ترفض الديمقراطية، فهل هناك أملٌ بتطبيقها في المستقبل، وهل يجب على القوى المناطقية الأخرى أن تدعو اليها، إلى أن ترغم المنتفعين على قبول ذلك؟ وماذا بيد تلك القوى من أوراق تلعبها حتى تفرض رأيها؟.
 
مناطق المملكة الأخرى قد تجد في الديمقراطية خشبة إنقاذ لها. هي الحل السلمي غير المكلف المتاح أمامها. وهي الحل الذي يقضي على مبررات الانفصال أو الإستقلال حسبما يقول البعض، لأنه حسب تعبيرهم، إنما يعودون إلى حالتهم السابقة قبل سيطرة الوهابية السياسية: دول وإمارات مستقلة، كما في الحجاز والجنوب وحتى في الشرق.
لكن هذه المناطق لم يظهر فيها دعوات إلى الحرية والديمقراطية، رغم أنه ظهر بينها حركات سياسية معارضة، وربما مسلحة، طالبت بإسقاط النظام، لكنها لم تتطرق أو لم تفكر في الحل الديمقراطي. اعتمدت المعارضة على القبيلة في جبل القهر في الجنوب، وفي شمال الحجاز حيث ثورة ابن رفادة بين قبيلة بلي، ووجدت معارضة وطنية ومذهبية في كل من الحجاز والأحساء والقطيف، ولكن لم تذكر الديمقراطية كإحدى وسائل الحل.
 
ليس هناك من تبرير لذلك سوى أن المعارضين يدركون بأن هذا الموضوع لا يتحقق. قال أحدهم: لماذا نطالب بشيء لا يتحقق؟!
 
أمرٌ غريب، أن تعدّ المطالبة بإسقاط النظام مساوية في الصعوبة مع تحقيق الديمقراطية، وتحتاج نفس القدر من التضحيات. أو هي عند البعض لا تتحقّق في وجود آل سعود، ولا في وجود الوهابيين.
 
بالنسبة للكثيرين، يستحيل للديمقراطية أن تتحقق في ظل الوهابية.. هما عدوان لدودان، لا يعيش أحدهما إلا على رفات الآخر. يمكن للديمقراطية أن تتعايش مع القبيلة، ولكن ليس مع الوهابية السياسية. يمكن أن تجدها أو تتصورها في دول الخليج ومشيخاته، ولكنها في السعودية مستحيلة، أو شبه مستحيلة برأي غير النجديين.
 
والأدلّة التي تطرح هنا، ليست ضعيفة، وإن كانت غير كافية.. هؤلاء يقولون بأن الوهابية السياسية لا تستطيع الإستمرار في نهجها الإقصائي حتى ولو كانت تمثل أكثرية السكان، فكيف بها وهي تمثل أقليّة منهم، وعليه فإن المستثنون كلياً أو جزئياً سيحتجون ويعارضون وربما يثورون في النهاية، والحل المتوفر هو قمعهم أو وقوع حرب أهليّة.. والوهابية السياسية لا تقبل الديمقراطية هنا لحل هذه المشكلة، بل هي تتظاهر ادّعاءً بأن ليس هناك مشكلة في الأصل فتحتاج إلى حل، ولا تقبل بإشاعة حالة من السلم بين المنتمين اليها وبقية المواطنين في المناطق الأخرى، فهي بحاجة إلى إشاعة توتّر دائم بين أفرادها، بحيث يشعرون دائماً بأنهم في وضع خطر، وأن الجميع ينظر اليهم بعين ملؤها الحقد والحسد، وأن الحذر من بقيّة المواطنين أمرٌ مطلوب لكي تستمرّ حالة الإقصاء وسياسة الإحتكار للسلطة.
 
الوهابية منذ احتلالها لمناطق البلاد في بداية القرن العشرين الميلادي لم تعش لحظة استرخاء، أو تسالم اجتماعي مع المجموعات السكانية التي أُخضعت لسلطانها واعتبرتها خصماً، فالشعور بالغلَبَة كان محفوفاً بالمخاطر والمنزلقات مما يجعل القيمين على التيار النجدي شديدي التوتر والحساسية من فتح موضوعات مثل التعايش والمساواة والمشاركة.
 
إن شياع مثل هذا الآراء خطير، بغض النظر عن مقدار صحته أو سقمه.. لأنه يغلق الأبواب أمام التغيير السلمي أو نصف السلمي، ويقفز بالمواطنين المستائين إلى العمل المسلح أو إلى الدعوة إلى الانفصال.
 
الحل السلمي هو التحوّل من نظام سياسي إلى آخر، سواء كان ذلك بفعل متغيرات سياسية، أو متغيرات اقتصادية، كأن ينهار الوضع الإقتصادي، أو بهما معاً.. وفي الحالة السعودية لن تحدث بالطبع حالة مثلى أو قريب منها حدثت في بلدان عديدة نجحت في التحول السلمي نحو الديمقراطية، لكن الوهابية السياسية قادرة فيما لو أرادت أن تدفع بالتغيير وأن تدفع ثمنه.
 
 
 
 

المركزية والحل الفيدرالي


 
السعودية دولة مركزية. المركز يقرر تقريباً كل شيء، وكل شيء يعود إلى المركز. حتى نظام المناطق ما هو الا تعبير بصورة من الصور عن المركزية الشديدة، حتى ليكاد المواطن يعتقد أن إمارات المناطق لا تعدو كونها مجرّد موصّل حراري إلى المركز، الذي عليه أن يتخذ القرار مهما كان تافهاً وصغيراً.
 
من يدير المناطق رسمياً وعمليّاً هي وزارة الداخلية، فالموضوع هنا له التصاق بـ (الأمن) والإلحاق الأمني للمناطق (المحتلّة). والتقسيم الاداري أو المناطقي قائم على أسس أمنيّة، ووظيفة إمارات المناطق أمني بالدرجة الأولى وما عداه فثانوي. فالإستدعاءات للأفراد، وأوامر التحقيق، والإعتقال وإطلاق سراح المعتقلين، كلّها تمرّ عبر الإمارة، والوجه الطاغي لها أمني بدرجة أساسية.. ولا نعلم إن كان لها أي أهتمام بمشاريع أخرى، اقتصادية أو عمرانية أو تعليمية.. وهي أمور يفترض من الناحية النظرية أنها مشمولة بعمل المناطق وأمير المنطقة. ولكن التقصير في هذه الأمور ليس مهماً لأن هناك وزارات تقوم بالواجب من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن التقصير فيها لا يعيره المسؤولون في الرياض أي أهمية، إلا إذا تحوّل الموضوع إلى أمني، أو بالأصح انعكس على الوضع الأمني. في غير هذه الحالة تبدو الأمور الأخرى من الأمور الإجرائية وهي رغم عدم الإهتمام بها من قبل الإمارة إلا أنها لا تتم بدون المرور عبرها في دورة بيروقراطية شديدة.
 
"المركزية" سببت من نواحي عدّة أضراراً بكل المواطنين، وبوحدة البلد عموماً. هي من أحد الأوجه عمّقت مشاكل المناطق التي استولت عليها نجد، سواء كان الحجاز أو الأحساء أو القطيف أو المناطق الجنوبية، حيث تعقدت العلاقة وتشعبّت وأصبحت مزمنة غير قابلة نظرياً للحل.
 
ذلك أن مقدار الحرية المعطى للمناطق للتصرف جدّ محدود ـ وهذا أهم عامل أو مؤشر على مركزية الدولة ـ من المركز السياسي فنازلاً. ليست للمناطق حرية أو هامش حرية للتصرف حسب الخصوصية المحلية، بل أن العقدة الأمنية ما جاءت إلا لتقمع هذه الخصوصية من أن تعبّر عن نفسها. القرار مركزي يأتي من الأعلى لكل المناطق دون أن يكون لها حق المساهمة في صنع أي قرار خاص بها أو يؤثر عليها، كما لا يحق لها ردّ أي قرار مركزي ـ من الداخلية طبعاً ـ وإن كان تطبيقه ينذر بمشكلة كبيرة، هذا فضلاً عن أن تساهم المناطق في صناعة قرار المملكة الكلي على الأصعدة المختلفة.
 
وفي الوقت الذي تتجه في الدول في العالم أجمع نحو إعطاء المناطق دوراً أكبر في صناعة السياسة المحلية، والتمتع بشيء غير قليل من الخصوصية، فإن السعودية على عكس ذلك تماماً. هي منذ تأسيسها تتجه نحو المركزية المطلقة، فتسحب يوماً بعد آخر صلاحيات المناطق لصالح المركز، حتى ولو كانت تلك القرارات تافهة. المناطقية عند العائلة المالكة تختلف عنها عند الآخرين: فهي أي المناطقية تمنح حرية أكثر في الدول الأخرى وفي السعودية تختزلها. وهي في البلدان الأخرى تعزّز هويّة السكان المحليّة ضمن البوتقة الوطنية وتفادياً لتطور مشاعر انفصالية، بينما هي في السعودية تمسح هويّتهم بدل أن تحييها أو تسمح بالتعبير عنها في الأقل.
 
وفي داخل المركز بين صناع القرار في الرياض، تتمركز الصلاحيات في يد العائلة المالكة، وليس الوزراء، وبين العائلة المالكة تتجه المركزية إلى الملك (قيل أنه حين مرض الملك فهد كانت هناك نحو ثلاثمائة ألف قضية معطّلة بينها قضايا مضى عليها أكثر من عشرين عاماً كانت تنتظر من الملك لفتة حل).
 
في بداية التأسيس كانت مشكلة (الإتصالات والمواصلات) قد فرضت على ابن سعود وهو يحكم مملكة في غاية الإتساع، أن يمنح نوابه أو أمراءه على المناطق بعض الصلاحيات، وبالخصوص إبنه فيصل (نائب الملك على الحجاز) وعبد الله بن جلوي (أمير الأحساء). وللمقارنة فحسب، فإن مما لا شكّ فيه أن الصلاحيات التي مُنحت لابن جلوي هي بمقاييس اليوم أكبر بكثير من الصلاحيات الممنوحة لمحمد بن فهد وإن كان هذا الأخير ابناً للملك، بل من المتيقن أن سلطة ابن جلوي الإبن (سعود) هي أكبر من سلطة ابن الملك اليوم، كما أنه ليس هناك من دليل قاطع على أن سلطة محمد بن فهد أكبر من سلطة عبد المحسن بن جلوي، مع ملاحظة أن الأول كان قد أُعطي صلاحيات استثنائية ليعمل على تهدئة المنطقة حين عين أميراً لها عام 1985، ولكنها سُحبت بالتدريج منه، وإن لم يتغير الحال في المستقبل فإن من يأتي ستكون صلاحياته أقلّ.
 
حين تطورت الإتصالات صار بإمكان الملك أو المركز أن يأخذ أكثر القضايا وأن يتدخل في ما يعجبه من أمور ومسائل، وأن يسحب الصلاحيات المحليّة لصالح المركز. لم تستقر أية تقاليد في تلك المرحلة المبكّرة من عمر السعودية، لتنمي نواة بيروقراطية محليّة تتمتع باستقلال عن المركز. الذي حدث هو عكس ذلك تماماً. قبل قيام الدولة الحالية، كانت عسير والحجاز والأحساء والقطيف تتمتع بهامش كبير من الإستقلال، بالنسبة للمناطق الملحقة إسمياً بالسلطة العثمانية، وكانت هناك مشاركة أهلية ومجالس بلدية محلية شبه منتخبة. وحين جاء السعوديون احتكر الأمير المعيّن الحكم باسم المركز، وكانت الصلاحيات التي منح إيّاها في أكثرها إجرائية مهما قيل عن توسّعها. ما كان ابن جلوي يفعله أنه كان منفذاً للأوامر، مع أنه صاحب رأي يُسمع.
 
كانت سلطة المركز إقتصادية وسياسية. مع أن بعض أمراء المناطق كالأمير فيصل في الحجاز، وابن جلوي لهم اتصالاتهم المباشرة بالإنجليز والقوى السياسية المحيطة في البحرين. هذه الصلاحيات جاءت من الملك نفسه وضمن حدود تخويله بها. أما صناعة السياسة وتنفيذها فهي بيد الملك، والصحيح ما قاله الزركلي بأنه لم يكن هناك من أحد له كلمة في الخارجية غير ابن سعود.
 
إضافة إلى المركزية المالية/ الإقتصادية والمركزية السياسية في الحكم وفي الخارجية، كانت هناك مركزية عسكرية ومركزية ادارية، وكان ابن سعود قابضاً عليهما، باعتباره رئيساً للدولة والقائد الأول على جيوشها وعساكرها. الحال استمرت حتى اليوم في شتى المجالات. إذا ليس هناك أي موانع أمام الملك أو الأمراء كمجموعة من أخذ أية صلاحيات وممارستها، سواء كانوا قادرين على الإيفاء بمتطلباتها ومسؤولياتها أم لا.
 
ماذا تعني المركزية في بلد كالسعودية؟
 
إذا ما قررنا أن هناك مشكلة هوية وانتماء، فإن المركزية تعني النجدية. حين تذهب قضايا المناطق إلى المركز (نجد) فإنها لا تجد تفهماً ليس فقط لأن هناك بعض المهووسين في أجهزة الدولة بالتعصب السياسي والطائفي والمناطقي الذي يمنع صاحبه في الأصل من التفكير الصحيح وتقدير الأمور حق قدرها.. بل وأيضاً ليست هناك قدرة على فهم المشكلة حتى مع توفّر حسن النيّة، فهناك مشاكل وقضايا لا يمكن لأحد أن يفهمها إلا اصحابها.
 
مجمل السكان غير النجديين يشكون من أن الآخر لا يفهمهم، هذا صحيح بلا شك. مثلما هو صحيح أيضاً أنهم لا يفهمون الآخر، والفارق أن مستوى المسؤولية يختلف. عدم الفهم هذا لا ربط له كثيراً ـ كما يحلو للبعض التأكيد ـ بأن وجهاء المناطق ومثقفيها ونخبها لم يشرحوا للآخر قضيتهم أو يوضحوا مواقفهم. هناك عقليتان مختلفتان تماماً. البداوة المذهبية المناطقية من جهة، والعقلية المذهبية المدنية والمناطقية في الشرق والغرب، وكل واحد ينتمي إلى هذين التيارين يجد مشكلة في فهم الآخر بنسبة غير قليلة.
 
الشيعة والحجازيون يقيمون الوهابيين على أساس معاملتهم لهم، ولأن الأخيرين لا يعاملون نظراءهم من المواطنين معاملة كريمة، جاءت الكراهية لهم وتقييمهم على أساس ما يلمسونه من مسلك عنفي ظالم. أما الوهابيون، وأمراء العائلة المالكة بينهم إلى حد ما، فهم يفهمون الشيعة من خلال كتب الشقاق التاريخية.. ولأن الوهابية تعتبر الجناح الأكثر تعصّباً بين مذاهب السنّة جميعاً، لذلك فهم يعتمدون على كتب الشقاق أكثر من غيرهم في التقييم، وثانياً لأن مذهب الوهابية (عقائدي) لذلك اتسم موقفه من الشيعة بناءً على ما ورد في كتب التاريخ وحسب. لا علاقة للوهابية السياسية بالمواطنين الشيعة في المملكة عبر الإحتكاك المباشر، وإنّما عبر الكتب، فهم لا يدرسونهم رغم أنهم يعيشون بين ظهرانيهم، بل يطلبون من أتباعهم عدم التعاطي معهم، وعدم السلام عليهم، فضلاً عن مناقشتهم والكلام معهم. إنهم يعرفون الشيعة من خلال كتب كتبت قبل ألف سنة وأكثر.
 
مرة أخرى المركزية تعني النجدية، أي إعادتها إلى محيط نجد، ليحكم فيها بعقلية نخبها، لتبت في موضوع لا قدرة لهم على فهم خلفياته. كان يعتقد بأن هناك مشكلة للمواطنين الشيعة يصعب حلّها مع إمارة المنطقة الشرقية، وكانت المسائل في كل مرّة تلقى على كاهل أمير المنطقة، مرة ابن سويلم، ومرة ابن جلوي، ومرة ثالثة محمد بن فهد. إذن فلتذهب الرسائل إلى الرياض، إلى حيث المركز، غير المتحيّز طائفياً، كما كان الوجهاء يظنّون، ولكن حين تذهب القضية أو القضايا تعود المشكلة بالسوء أحياناً، أو بدون فائدة، لأن العقليّة النجديّة هي هي، في الرياض أو الدمام أو أي مكان آخر من المملكة. في الشرقية لا تتفهم الإمارة أوضاع الشيعة ومشاكلهم:
 
ـ لأن كل طاقمها الفاعل من الأمير فنازلاً هم نجديون، بمعنى أنهم جاؤوا من خلفية ثقافية ومناطقية. مما يبعث على السخرية أن يأتي محمد بن فهد من الرياض ومعه طاقم نجدي كامل ليحكم الشرقية، ليس بينهم حجازي أو جنوبي أو من أهل البلاد (الشرقية نفسها) وكأن هذه المنطقة مستباحة لا أحد فيها ولا رجال ولا حتى أصحاب رأي يمكن أن يدلّوه على الطريق الصحيح.
 
ـ لأن اتصال الأمير وحاشيته التي تدير المنطقة بعقلية المالك المحتل لغيره، والسيّد الذي يجب على غيره أن يخضع له.. إن اتصال هؤلاء بوجهاء الشيعة وكفاءاتهم قليل جداً يكاد يكون معدوماً. وهو كأمير يعتب لأن أحداً لا يأتي ولا يزور، وكأن القوم يقاطعونه. ولكن حتى لو انفتحوا فإنه لم ولا يقدر الإنفتاح، ومن الغباء أن يتعاطى الناس مع أمير لا يقدّر الإمور ولا الأشخاص.
 
وهكذا فإن ما تعنيه المركزية في بلدنا هو أن مشاكل المواطنين جملة لا تحلّ، فحيثما وجدت المركزية وجدت مشاكل، رغم وجود ما يُسمّى أو يدّعى نظام للمناطق، الذي يعتبر وجوده كعدمه.
 
من الناحية الواقعية تعتبر السعودية دولة متعددة، ثقافيا مذهبياً وحتى عرقياً.
 
لهذا السبب، ولأن المملكة نشأت عبر ضم أراض ومناطق ودول وشعوب مختلفة ، فإن ما حدث من ضم (للحجاز) وإلحاق (للأحساء والقطيف) واستيلاء على (الجنوب) يفسح المجال لظهور دعوات انفصالية. لأن الجماعات المتعددة التي تقطن هذه المناطق تبدي انزعاجها مما حدث لها خاصة وأن البلاد صارت ملكاً للمحتلين (بحق الفتح) أو بتعبير الأمراء (أخذناها بالسيف والسيف لازال بيدنا).
 
المملكة نشأت كبلد مركزي، رغم أن كل مقومات أن تصبح دولة فيدرالية كانت ولاتزال قائمة. بالنسبة لبعض الدول فإن الفيدرالية، والتي يقصد منها: نظام سياسي قائم على مبدأ توزيع السيادة بين المركز والمناطق، نشأت كنتيجة تلقائية، أو كانعكاس لنشأة الدولة. فإذا كانت الدولة قد نشأت من مناطق أو إمارات أو دول منفصلة (وحدات سياسية) فإن ذلك يجعلها كما في أميركا واستراليا تشكل فيدرالية تمنح من خلالها المركز قدراً من الصلاحيات.
 
أما الدول التي تنشأ كما في السعودية عبر الضم القسري العنفي غير الحرّ، فإن رعاتها لا يبحثون عن فيدرالية، فالغالب المنتصر، خاصة ذو العقلية القبلية، والمذهبية الطاغية التي يريد تسويدها على الآخر، لا يقبل بغير كامل السلطات والصلاحيات. هكذا نشأت السعودية كدولة، بدون اختيار أو رغبة. لم يستشر السكان في أمر الوحدة، إذ لو حدث لكان الناس قد اختاروا نظاماً قريباً من الفيدرالية بحيث:
 
·       توزّع السلطات بين المركز النجدي والمناطق التي خضعت أو أُخضعت لآل سعود وحلفائهم.
 
·       توفّر قدراً كبيراً من الفاعليّة في إدارة كل منطقة أو مقاطعة، وتوفير خدمات بصورة أفضل.
 
·       ترضي المشاعر المحليّة، مناطقيّة أو مذهبية أو معاً، وتتيح للسكان في كل منطقة التعبير عن تلك الخصائص في إطار الوحدة الوطنية.
 
غير أن الذي حدث عكس ذلك:
 
ـ فقد وضعت المركزية مقابل الفيدرالية التي كانت قادرة يومئذ على صناعة نظام سياسي أقرب إلى الإنسانية والى روح العصر، قادر على أن يعمّر طويلاً، وأن يكون مقبولاً ومرضي عنه من قبل السكان.
 
ـ الصهر والتذويب الثقافي في بوتقة الوهابية، أي اعتماد الأحادية الثقافية، مقابل التعددية التي هي في الأصل حالة طبيعية ومفيدة في بلد لم يعرف ـ وليس مفيداً في الأصل أن يعرف ـ التوحّد الثقافي حتى اليوم رغم كل الإصرار.
 
ـ الإستئثار بالحكم ومنافعه مقابل الشراكة مع المختلف.
 
ـ الإلحاق والضمّ (سلطنة ومملكة نجد وملحقاتها!) بدل احترام كينونة وثقافة وتاريخ وهوية كل منطقة.
 
إن منطق القوة وليس منطق التنازل هو الذي ساد حكم العائلة المالكة منذ أن بدأ لكل المناطق التي وصل اليها سلطانها.. واذا ما اختفت القوة فإن الوحدة السياسية الفوقية المصطنعة ستتفكك، لأن الدعوات الإنفصالية تتخفّى وراء سياط القهر.
 
كان يمكن في السعودية نظرياً تطوير الإلحاق القسري ليقود إلى إلحاق نصف اختياري لو أعتمدت الحكمة في فهم خارطة السكان ونفسياتهم وتنوعهم في المناطق التي يقطنونها.
 
إن بقاء الشيعة في مناطقهم، والحجازيون كذلك مؤشر على حقيقة أن الدمج السكاني لم يتم في المملكة، وإن بقاء مجموعات سكانية في مناطق مختلفة لا يعني الدمج، فهي كما النجديين في الحجاز، مقطوعة العلاقة مع الحجازيين، بل أن مصالحها مرتبطة في محيط النجديين.
 
إن الأغلبيات القابعة في مناطقها تثبت أن دوافع الإنفصال لاتزال أكبر من دوافع الإلتحام. وأن عوامل ثقافية واقتصادية وسياسية هي وراء كل مشاعر العزلة التي تدور في إطارها نوازع الإنفصال عن جسد الدولة.
 
يجب ان ندرك مغزى أن السعودية دولة قامت على الضم العسكري والإلحاق، فهذا النوع من الدول هي الأكثر عرضة للتفكّك من جديد.
 
الذي يخفف من وطأة ذلك:
 
·       أن يمضي وقت طويل على تأسيس الدولة، فالعمر القصير قد يعيد الأمور إلى سابق عهدها.
 
·       أن تتحوّل الدولة إلى حالة دستورية تحظى بقبول شعبي عام. بحيث تنتقل مؤسساتها ودستورها من حالتها الإنتقالية إلى حالة مستقرّة.
 
·       أن تخلق هويّة وطنيّة وثقافة وطنية جامعة، وأن يتغاضى قصداً عن بعض مفاصل تاريخ النزاع إلى حين على الأقل.
 
·       أن تُمنح المناطق فرصة إدارة ذاتها والتعبير عن ثقافتها في إطار البوتقة الوطنية. أي أن تتحول ما يسمّى بملحقات نجد، والإمارات المضافة إليها خاصة إذا كانت كبيرة الحجم أو تضاهي المركز في كثافة السكان والمساحة والأهمية الإقتصادية والإستراتيجية، إلى ما يشبه الفيدرالية.
 
لهذا ليس هناك مستقبل أمام المملكة سوى واحدٍ من حلّين:
 
ـ الحل المذكور أعلاه، رغم كلفته بالنسبة للعائلة المالكة والفئة المنتفعة بوجودها، والذي يجعلهم شركاء متميّزين، وليسوا أسياداً مطلقين.
 
ـ أو الإستمرار في الوضع القائم الذي يجعل البلد مفتوحة أمام كل الإحتمالات حتى ينتهي عهد الغلبة والإكراه. إما بانتهاء العائلة المالكة، أو بدعوات انفصالية صريحة تجد لها دعماً أجنبياً يفكّك المملكة.
 
هناك مسألة مهمة، وهي أن الفيدرالية تحمل وجهاً خطيراً:
 
فقد تؤدي في بلد حديث كالسعودية إلى تفكيكه.
 
ومع أنها حلّ لمعضل حقيقي فإنها في بلد يتكون من أقليّات كما هو الحال في السعودية، قد تفسح المجال لها بأن تنفصل. بمعنى أن تطوّر حالة من الإستقلال الذاتي المودي للانفصال.
 
 
 

(3) الحلول الإستئصالية والإدارية


 
 
 
 
المذهب الرسمي بطبيعة نشأته  يؤمن بالحلول الإستئصاليّة، وله نزعات بهذا الإتجاه غير عادية.. يدعمه في ذلك جهاز الدولة الذي تسيطر عليه. الأمر المؤكد بين النخبة الدينية أنها لاتزال شديدة الميل لاستخدام مفهوم الجهاد ضد شرائح من المواطنين، وليس مجرد الإعتقاد النظري، أي أن الغطاء الشرعي لاستخدام العنف والتكفير ضد المخالف لم يتغير كثيراً منذ أن نشأت الدولة السعودية الحديثة، ولم يغير قيام الدولة شيئاً كثيراً من عقلية نخبها الدينية، التي أكثرت في العقدين الماضيين من إصدار فتاوى التكفير والقتل ليس ضد الأفراد فحسب بل والجماعات أيضاً، وهي بين الفينة والأخرى تقوم بالتحريض ضدهم، ومن منابر الدولة الرسمية الإعلامية والتعليمية.
 
النخبة المسيطرة ترى أن القوّة تحكم، وتفرض ما تريد دون حدود. من حسن حظّ أعضائها أنهم شهدوا هذا المنطق وقد كُسر مراراً خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، بانهيار الإتحاد السوفياتي والمعسكر الإشتراكي وتفكك بعض دوله. فلا يعني وجود القوة: القدرة على استخدامها، كما لم يعد يعني استخدامها بتوسّع شأناً داخلياً لا أحد يعترض عليه من قبل المجتمع الدولي. هذه التجارب مرّت أمام القيادة النجدية، ولا نعلم إلى أي حدّ يمكن القول أنها استفادت من دروسها. الأمر المؤكد أنّ هناك بين أمراء العائلة المالكة وحاشيتها من هو مهووس بالتهديد بالقوة، وبالحديث عن سيل الدم إلى الركب، وعن السيف الذي (لازال بيدنا).
 
والأمر المؤكد الآخر، أن القيادة المسيطرة مجملاً تشعر بقدر كبير جداً من الاطمئنان في قدرتها على إخماد أي تمرّد عليها، فيما توفّر القوى الحليفة الخارجية المناخ السياسي للتغطية على فعلتها الداخلية. هذا الشعور الطاغي بالثقة، في استخدام الحدّ الأقصى من الدمويّة مع المواطنين، بدأ بالإنقلاب والتراجع السريع بعد أحداث نيويورك، بحيث أضافت الحادثة بعداً دولياً شديد التأثير تجاه ما يحدث في الداخل السعودي.
 
إن أشكال الحلّ الإستئصالي متعددة، وهو يستهدف التخلّص من المشكلة إلى الأبد، سواء كانت مشكلة أثنية أو دينية أو غيرها.
 
التهجير: هناك حلّ عبر التهجير، حيث يتم إبعاد شعب ما من وطنه، إلى بلد آخر، أو إلى منطقة أخرى ضمن الدولة نفسها. مثلما فعل ستالين بشعوب القوقاز، أو كما حدث أثناء استقلال الهند بين المسلمين والهندوس، حيث التهجير المتبادل فور إعلان دولة الباكستان، أو كما حدث في البوسنة والهرسك أيضاً، بغض النظر عن القدر المتحقق من النجاح. والوهابيون الذين قذفت سياساتهم العنفيّة بملايين البشر خارج الجزيرة العربية خلال القرنين الماضيين، يدور في مخيلة متطرفيهم شيء من هذا الحلّ، على الأقل بالنسبة للشيعة، وهناك من مشايخ الوهابية من طالب بوضع حدّ لتكاثر المواطنين الشيعة (كما جاء في مقالة الشيخ ناصر العمر) ومنهم من أراد التشكيك في عروبتهم لأغراض لا تخفى. إلا أن المشاريع المتطرفة من هذا النوع يستحيل تطبيقها من الناحية العملية، لأسباب مختلفة، بعضها يتعلق بالشيعة أنفسهم، وبعضها يتعلق بالوضع الاقليمي والدولي.
 
التقسيم: هناك حلّ نهائي أيضاً عبر التقسيم، سلماً كان أم حرباً. الباكستان والهند نموذجاً قديماً، ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا نموذجان حديثان. وهذا النوع من الحلول يقلق النخبة الحاكمة، فهو الأقرب من وجهة نظرها إلى التحقّق.
 
الدمج: هناك حل الإمتصاص والدمج للمجاميع السكانية في بوتقة ثقافية جامعة، أميركا وكندا واستراليا أمثلة. ولكن السعودية لا تستطيع ـ رغم التشابه النسبي ـ تطبيق هذه السياسة لأسباب شرح بعضها آنفاً.
 
الحل الإيديولوجي: حيث يفرض النظام السياسي القائم سياسة عدم الإعتراف بكل الأديان أو المذاهب وبكل الأثنيات وبأية اختلافات أخرى، ويقوم في نفس الوقت بفرض المساواة بين الجماعات والشعوب والأقوام في بلد متعدد. وهذه السياسة قد طبقت إلى حد كبير بالنسبة للاتحاد السوفياتي وآتت فشلها، وفي الصين جرى تعديلها، بحيث سُمح للتعبير عن الهويات الأثنية والدينية ضمن النطاق الوطني.
 
المذابح: وأخيراً هناك حل إستئصالي عبر الإفناء والمذابح بالشكل المروّع الذي شهدناه بين التوتسي والهوتو في رواندا. تُعرّف المذبحة بأنها الحالة شديدة التطرف من الخلاف بين الجماعات الدينية والأثنية والتي تستهدف إفناء الجماعة الثقافية أو الدينية أو الأثنية جزئياً أو كليّاً. في حين ان التطهير العرقي يتضمن أعمالاً مشمولة بتعريف الأمم المتحدة للمذبحة.
 
على أن هناك من بين الجماعات الدينية والعرقية من يتحدّث أو تحدّث عن (مذابح ثقافية) تعرضوا لها، كالكاتلان في أسبانيا في عهد فرانكو، والكيوبيكيون في الخمسينات في كندا، والغجر/ النور في كثير من أصقاع العالم.
 
تقع المجازر أو المذابح في الدول المتقدمة وغير المتقدمة، وفي البلدان إما ثنائية العرقية أو متعددة الأعراق والهويات. إن طبيعة المجتمع وطبيعة النظام السياسي لا تقدمان إجابة شافية على وقوع المجازر، ولكن وبلا شك فإن هناك مجتمعات تميل إلى العدوانية لطبيعتها الثقافية/ الدينية، مع أنه يوجد في كل الأديان والمذاهب والأعراق متعصبون عدوانيّون. أيضاً قد تخلق البيئة المناخية مجتمعات تتسم بالقسوة والفظاظة كالمجتمعات الصحراوية المغلقة، مع أن مجازر وقعت في أجمل وأخصب بقاع الأرض!
 
يتحمّل النظام السياسي، أو النخب السياسية، مسؤولية المذابح التي تقع في بلدهم ضد فئة معينة، مختلفة دينياً أو عرقياً أو مناطقياً. كذلك فإن طبيعة التاريخ المشترك بين الجماعات المختلفة، وحدود المصالح المشتركة، وطبيعة الروابط الفطرية الأوليّة وقدرتها على منع التواصل مع الآخر.. عوامل قد تزيد أو تقلّص من احتمالات وقوع المذابح.
 
هناك أيضاً سبب مهم، وهو "الخلل" في تقسيم المصالح بين الفئات العرقية والدينية والمناطقية، سواء كانت تلك المصالح (سلطة سياسية) أو (إمكانات إقتصادية) أو (إمتيازات ثقافية ودينية ومناطقية). كلما كان توزيع المصالح أقرب إلى تحقيق العدالة، كلما كانت الصراعات أخفّ وطأة، وكان الميل إلى حفظ ما في اليد واستخدام وسائل ضغط سلميّة أقرب إلى التحقق. أما اذا استأثرت فئة أو منطقة بالخير كل الخير، وحرمت نظرائها منها، وسواء كانت تلك الفئة المسيطرة أقليّة أم أكثرية، فإنها لا تترك خياراً للطرف الآخر إلا أن يعمل على تغيير المعادلة بالقوّة، فيصبح أعضاء الفئة المسيطرة هدفاً للمذابح والمذابح المضادّة.
 
كذلك حين تفشل قواعد الشراكة (الظالمة أحياناً) ولا يستطيع الشركاء الوصول إلى حل جديد، فإن الحرب تقع، وتقع بعدها المذابح على الهوية أحياناً (لبنان نموذجاً بين عامي 1975 و1990 وكذلك قبرص التي تعرضت لحرب أهليّة وتقسيم لازال حتى اليوم قائماً).
 
وقد تقبل جماعة معينة تقسيماً للحصص غير عادل، خضوعاً منها لمنطق القوة، ولكنها قد تختار وقتاً مناسباً لفتح معركتها من أجل إعادة توزيع السلطات والإمتيازات، وحينها تكون الأمور أقرب ما تكون إلى الحرب الأهلية وعلى مقربة من وقوع المذابح.
 
كذلك حين تستسلم جماعة دينية أو عرقية للفئة الغالبة فتحرمها من كل حقوقها، فإن المذابح لا تقع.. ولكن حين يجدّ الجدّ ويبدأ المحرومون في المطالبة بحقوقهم يقع الصراع، وإذا ما تطوّر قد تقوم حربٌ أهليّة. وحينها يُتهم الضحايا والمحرومون بأنهم (السبب) وراء إشعال الفتنة.
 
في الحالة السعودية، فإن تاريخ المملكة الحديث، بل تاريخ السعوديين القديم والحديث مليء بشواهد الدم لا نريد هنا أن نستعرضه، فهو مسطّر بتفاخر في كتب التاريخ وتباع في الأسواق. إنما الذي يهمّنا هنا هل أن تلك المذابح التي لم يمض على بعضها سوى عقود، قابلة لأن تكرّر.. هل ثمة استعداد لفعل ذلك، سواء على خلفية دينية متطرفة أو على خلفية مصلحية حاضرة واضحة؟.
 
لعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن الإجابة نعم، إذا ما كانت هناك تغطية سياسية دولية، هي الآن صعبة التحصيل.
 
الحل الإداري: وهذا الحل قائم على أساس فكرة أن ليس هناك من حل للمشاكل الدينية والعرقية. وبالتالي فإن هدفه التعاطي مع المشكلة ومحاصرتها وحلحلة أجزائها المتفجّرة، خطوة إثر خطوة، على أمل أن يلعب الزمن دوره في تخفيض المشكلة إلى حدّ يجعلها غير مؤثرة لا على بنيان الدولة ولا على حياة المواطنين أنفسهم، ولا على علاقة المواطنين بعضهم ببعض، هذا الحل يعتمد سلسلة متواصلة من العمليات الصغيرة والمستمرة ويتضمن الخطوات التالية:
1 ـ إشراك جميع فئات المجتمع في ماكنة السلطة، فالهدف إدخالها في اللعبة وليس إخراجها منها، لأن الخطر يكمن في الإقصاء، فهو يعني عدم وجود حدود للعبة السياسية، وبالتالي ليس هناك من حدود للخروج عليها.
 
2 ـ إعتماد منهجية صالحة في التعليم، خاصة في كتب الدين والتاريخ، يقوم على تعريف الآخر بعيداً عن التنميط، وبعيداً عن الإغفال، وبعيداً عن الإسفاف وعدم الاحترام.
 
3 ـ تشجيع الإتصال بين الجماعات المختلفة عرقياً ومناطقياً ومذهبياً، وخاصة بين القيادات السياسية والروحية والنخب العلمية والفكرية والإقتصادية.
 
4 ـ ترسيم الخطوات دستورياً ونظاماً حتى تأخذ مفعولها الزمني الطويل وتمنع الإنفجارات المفاجئة، وحتى يحتكم اليها كقواعد مرجعيّة عند الضرورة.
 
 
 

(4) آخر الدواء: الإنفصال


 
 
وهو خيار من لا خيار له. توصلنا في فقرات سابقة الى أن الديمقراطية شبه مستحيلة، فهي غير مقبولة من الفئة المسيطرة بشتى أصنافها. كما أن بقاء واستمرار الحال من المحال، فالصمت تحت الإكراه قد يستمر الى حين ولكن يأتي اليوم الذي يبحث الناس فيه عن حل حقيقي لمشاكل عمرها يقارب عمر الدولة السعودية نفسها.
 
كما أن العمل على أساس جماعات المصالح لا يجدي أو لا يعالج جذور المشاكل، كما رأينا أيضاً.
 
ورأينا أيضاً أن النخبة الحاكمة لن تبادر من نفسها طوعاً فتحلّ الأمور وتعدّلها، لأنّ تقييم أقطابها للأمر يقول بأن الوقت لم يحن بعد، ولازالت المناطق والجماعات نائمة، ولا يوجد أحدٌ مستيقظ سواها. وفضلاً عن هذا فإن القوة كافية ومتوفرة لضبط الأوضاع إذا ما تطورت الى الأسوأ، وخيار الإصلاح لن يكون إلاّ آخر الخيارات.
 
لو طلب الحجازيون أو غيرهم الإنفصال عن الدولة "النجدية" لوجدوا مبررات عديدة لذلك.. وهم حين يرفعون هذا الشعار علانيّة، وبدون تردد في المستقبل، فإن النخبة السياسية ستقول: انظروا اليهم كيف يتآمرون علينا مع الأجنبي! كنّا على حقّ حين منعناهم الوصول الى السلطة أو الحصول على حصّة حقيقية فيها، كنّا على حقّ حين استخدمنا سياسات حاسمة ضدهم!
 
مما لا شك فيه أن الدعوات الإنفصالية ممقوتة، وبالنسبة لبعض الشعوب فإنها تشعر بعقدة تجاهها، كما هو في العالم العربي لأسباب لا تخفى.. وتبدو مثل هذه الدعوات غير مبرّرة مهما كان سلوك السلطة الحاكمة. والمواطنون في العالم العربي بطبيعة الحال لا يعيشون الأزمة، ولا يستطيعون تقدير حجم تأثيرها، ولا يستطيعون فهم مبرر: لماذا ـ كما هو الحال الآن ـ تثار مسألة تقسيم المملكة؟ ولماذا تطالب جماعات عديدة بتأسيس دول خاصة بها، أو بالأحرى إعادة الحياة لدولة انهارت أو عفى عليها الزمن؟. بمعنى أنهم لا يلومون بالضرورة أقطاب السلطة الحاكمة على فعلهم الذي أدّى الى دفع المواطنين دفعاً نحو تبنّي حل (آخر الدواء).
 
من جهة ثانية ارتبط تمزيق الوطن العربي والإسلامي وبلدان العالم الثالث بالإستعمار الفرنسي والبريطاني الذي كان قائماً على أُسس الإنتماءات الفطرية. فالجماعات العرقية والدينية واللغوية تمّ في عهد الإستعمار تحديد عددها، وتحديد أرضها فكان أن انفجرت بمجرد أن قامت الدول القطرية.
 
ربما تكون هناك دول تسعى الى تفتيت السعودية. ولعل رجال السلطة الحاكمة لاحظوا أن الدور الأميركي بدأ بالتغيّر تجاههم، من دور الحامي الى دور عكسي وربما تدميري، خاصّة بعد أن استنفذ معظم أغراضه منها ومنهم. فقد استنفذ مرامه منهم في حربه للشيوعية الى أن انتهت. واستنفذ أغراضه منهم في محاربة الراديكالية العربية. واستنفذ خزانتهم، بعد أن كانوا البطة التي تبيض ذهباً، فلما سقط سعر النفط ولم تستطع السلطة الحاكمة تسديد الفاتورة عبر شراء السلاح، أو وضع فائض الأموال في مصارف الغرب (الخزانة الأميركية على وجه التحديد).. لم تـُعر السعودية أهمية كما في الماضي. أيضاً، استنفذ الغرب غرضه منهم بعد أن كانوا ما يسمّى بأداة (الإعتدال) وأصبحوا اليوم مصدراً للإرهاب وفق المفهوم الأميركي، وانهار دور المملكة وتأثيرها الخارجي، المتزامن مع الإنهيار الإقتصادي، والإرباك المحلي..
 
بعد كل هذا.. ربما ـ نقول ربما ـ تكون المملكة قد استنفذت أغراض بقائها لدى الغربيين. وإذا كانت الدول المستعمرة تريد بالمملكة شرّاً، فهذا شأنهم، أما شأن مواطني المملكة فهو أن لا نعطيهم الفرصة بأخطائنا وسياساتنا العوجاء.
 
والقضية أكبر من مسألة (تفويت الفرصة على العدو).. فحين يتوفّر العدل والمساواة ، فإن ذلك في صالح سكان المملكة، بغض النظر عن انعكاسات ذلك خارجياً. المواطنون يهمهم أن يعيشوا في بلد آمن مستقر موحد يتساوى فيه أبناؤه ويشتركون في المغنم والمغرم.
 
أمّا إذا كانت الطبقة الحاكمة، وحتى لو كان من منظار مصلحتها هي، لا تدرك قيمة الإستقرار والمساواة بين مواطنيها، وتصرّ على أن لا تعاملهم سواسية، فذلك سيؤدي الى خلاف مصلحة ديمومة الحكم الفئوي القائم. الخطأ بالدرجة الأولى ليس خطأً مطالبة الحجازيين أو الشيعة أو أهل الجنوب والشمال الإنفصال بسبب ما يلاقونه من ظلم وتعدّ وإجحاف، وهم لم يعلنوا ذلك حتى الآن إلا على خجل للأسباب التي شرحناها قبل قليل، بقدر ما هو خطأ الفئة الحاكمة التي تدفعهم بهذا الإتجاه. ومن المجحف بحقّ كل المواطنين غير النجديين أن يطلب منهم الحفاظ على وحدة لم يحترمها سادة نجد وأباطرة المذهب فيها، والذين هم المستفيد الأكبر منها.
 
لغة المواطن العادي تقول: لن آسف على انتهاء وحدة البلد اليوم أو غداً، وإن تأخّر فبعد غد، لأن القائمين على رأسها لم يحافظوا عليها مثل الرجال، لم يشافوها من عللها قبل أن ينخر فيها السرطان. كان بيدهم الداء والدواء، ففضلوا الداء لحقنها، فلماذا أحزن على أمرٍ لم يكن لي يدٌ فيه، أولاً. ولم تكن لي منفعة معنوية أو ماديّة ـ أو قلْ هي قليلة ـ ثانياً. لقد ولدت الوحدة لغرض واحد هو خدمة الفئوية، وقد تموت لتخدم بقية الفئات المحرومة الأخرى.
 
فالسلطة السياسية قد تهيئ ـ أحياناً ـ بطبيعة سلوكها أفضل الفرص للإستقلال عنها.
 
معروف أن موضوع الإنفصال أو الإستقلال يطغى في فترة من الفترات ويخمد في غيرها، اعتماداً في ذلك على الوضع الداخلي للجماعة المقهورة، المغلوبة على أمرها، التي تعاني من التمييز.. واعتماداً على قيادة تلك الجماعة، ومدى تغلغل الرغبة فيها وفي أفرادها، ومدى إلحاح تلك الرغبة، ومقدار مقاومتها من قبل الجماعة المسيطرة على الحكم.
 
في المملكة رغبة خجولة ظاهرية للإنفصال، ولكنها رغبة حقيقية دفينة مكبوتة، تنتظر الفرصة السانحة ليعبّر عنها بملء الفم. وقيادات المناطق تجد نفسها بين رغبة مكبوتة وبين ثمن يجب أن يدفع وبين واقع مرّ لا تستطيع التعايش معه أو الإستمرار فيه.
 
أيضاً تلعب الظروف الإقتصادية والسياسية الخاصة بالجماعة دوراً في تنشيط أو تخفيض مفاعيل الإنقسام والإنشطار، كما تلعب قدرة النظام السياسي على استيعاب المشكلة وتهدئتها دوراً مهماً في إبقائها تحت السيطرة، فالمطالب العليا الكبيرة يمكن التعاطي معها قبل أن تتفاقم بالإستجابة للمتطلبات الصغيرة.
 
على سبيل المثال، نشطت في الثمانينيات حركة السيخ المنادية بالإستقلال وإقامة دولة كخالستان، ولكن تلك الدعوات خمدت الى حدّ ما الآن. والسبب يعود الى عدم تعمّق الروح الإنفصالية، ويرجع الفضل في ذلك الى طبيعة النظام السياسي الهندي الذي لم يكتف بخلق هويّة وطنية قويّة (هندية) فحسب بل أنه اعتمد مبدأ الإحتواء والإشراك لكل قوى ظاهرة في كل أقاليم الهند، والى حدّ الآن فإن التجربة الهندية تعدّ ناجحة، رغم التنوّع اللغوي والعرقي والديني العظيم.
 
وهناك مثال آخر من الهند أيضاً، فقد تمرّدت ولاية آسام التي تعد ولاية غنيّة نظراً لوجود النفط ومنشآته، وكان سكانها قبل أن تتطور لديهم فكرة الإنفصال يحتجون ضد حقيقة أن الثروة التي تنتج لديهم لا يحظون منها بنصيب معقول، ولا يحظى سكانها بأولوية في التوظيف. هم لم يطلبوا الإستئثار بالثروة وإنما بنصيب منها. وبسبب تلكؤ السلطات المركزية، تطور الأمر الى دعوة انفصالية حادّة. هنا التفت الحكومة على تلك المطالب بسرعة ونزعت فتيل الإنفصالية، وحقق المواطنون في الولاية واحداً من أهدافهم.
 
 


(6)غياب الهويّة الوطنية


 
 
 
مشكلة مناطق المملكة مع المركز، أن نخبه تتحرك وفق المنظور المناطقي وتطالب نظيراتها أن تكون وطنية (سعودية). وفي حين تتحرك نخبة المركز باعتبارها ممثلاً وحيداً للمملكة في الخارج، تحاول في نفس الوقت أن تنفي وجود أي تنوّع فكري أو ثقافي أو مذهبي فيها. إن الكثير من أعضائها يشعرون بالإمتعاض الشديد إذا ما سُئلوا عن المواطنين الآخرين أو عن تمثيلهم. فهم وحدهم يمثلون وجه البلد الخارجي (كسعوديين) ولا أحد سعودي غيرهم. وفي الداخل هم فوق السعودة: مناطقيون، لأن السعودة لا تخدمهم، فهي تجعلهم سواسية مع غيرهم بدون تمييز.
 
إن مقولة: كلنا مواطنون سواء، لا تقال إلا للإستهلاك، خصوصاً في الخارج، ولكنها في حقيقتها لا تحمل وزناً من المصداقية. ذلك أن الفئة الغالبة تعتبر نفسها أسمى عرقاً وأصلاً، وأعلى مقاماً وهيبة، وأنظف فكراً وثقافة وأصحّ مذهباً. هي الأقوى والأعلى، فكيف تقبل بأن تتساوى مع الحجازي والجنوبي والشمالي والشيعي في الشرق في الحقوق والواجبات؟.
 
والإنتماء إلى المملكة كـ (سعودي) رغم أنه يحمل مشكلة لا يلق اعتراضاً جذرياً إلا لكونه لا يطبّق. فالسعودة أضحت غطاءً لكل الممارسات الشاذّة والتمييزية التي تقوم بها الفئة الغالبة. أن تعترف بالعائلة المالكة وبمقامها في الدولة لأنها أقامت الوحدة أمرٌ. أما أن تستخدم السعودة غطاءً لعدم المساواة، ومصادرة حقوق الآخرين، وتفضيل منطقة ومذهب وتسويدهما على غيرهما، فذلك أمرٌ مختلف وغير مقبول ولا يمكن أن يؤدي إلا إلى نهاية سيئة. بل هو في المدى الإستراتيجي عامل تمزيق بدل أن يكون عامل توحيد.
 
لم يؤكد المواطنون بشتّى أصنافهم وتوجهاتهم، على هوياتهم المحليّة والفئويّة قبالة مشروع وطني موجود على الأرض، أو قبالة هويّة وطنيّة أو قاعدة تضامن وطني متفق عليها ويجري التعامل على أساسها.. ذلك أن هذا المشروع وتلك الهوية أو القاعدة لم توجدا في الأساس، ومن الصحيح القول أن المشاريع الفئوية إنمّا ولدت (في وبسبب) غياب المشروع الوطني الجامـع، مما جعل العوامل الدافعة نحو الوحدة أضعف من عوامل الشدّ المناطقية والمذهبية. إن (الطائفية، والمناطقية والقبليّة) في المملكة لم تطرحا في يوم من الأيام باعتبارهما النقيض لكل القيم الوطنيّة، بل طُرحتا كرد فعل على ما اعتبر فئوية في ممارسات النظام وتمثيله المناطقي.
 
المملكة نصف إمبراطورية، ليس قياساً بحجمها وثرواتها فحسب، وإنما أيضاً لكونها تتشكّل من مجتمعات شديدة الخصوصية، قامت على أساسها دول.. والمملكة شأنها شأن كل بلاد في العالم، تحفل بالإنتماءات المجتمعية الجزئيّة، ولكن ما يميّزها أن الإنتماء العام الكلي والمشترك بين أبنائها ضعيف، وبنيانها يعاني من نقـص حاد في الإنصهار والإندماج، أحد أسباب ذلك أن مشروعاً وطنيّاً لم يولد بعد، وهويّة جامعة لم تتبلور، وإحساساً بالجماعة والمصالح المترتبة عليها لم تُخلق بما فيه الكفاية.. وهذا يعود في جـانب منه الى نشأة المملكة الحديثة، وتكلّس النظام السياسي وتصلّب شرايـينه، فلم تعد لديه المرونة الكافية لإيجاد حلّ بعد عقود طويلة من الولادة.. ومن البديهي في مثل هذه الأحوال والأوضاع أن نرى في المملكة مجتمعات تتعايش الى جانب بعضها البعض، مسيّجة بنظام سياسي جامد يصنع سياسات تمنع من تواصلها وتعيق تفاعلها واندماجها.
 
إن النظام في المملكة لم يتحول من نظام وطني الى نظام طائفة أو فئة.. ذلك أن النظام نفسه ولد طائفياً عصبوياً، فالطائفية الجهويّة هي التي صنعت بقواها الدولة واستحوذت عليها.. ونظام الحكم هنا لم يدعم نمو العصبيات المناقضة للدولة جميعها، بل وظّف أحدها في مشاريعه السياسية، وكانت الأزمة كلّ الأزمة هي في عدم قدرته على التحوّل الى نظام عام.
 
ومما عقد المشكلة أكثر، هو أن بقاء النظام الطائفي بصورته القديمة ـ الجديدة التي هو عليها لم يعد ممكناً، ذلك أن استمراره على قاعدة التوازنات السكانـيـّة والمناطقية والمذهبية التي اعتمدها منذ قيامه وفي مرحلة زمنيّة معيّنة تغيّرت.. ولا بدّ من مواكبة التغييرات النفسية والفكرية والمادية وغيرها.
 
إن المجتمعات المتنافرة في المملكة.. أو لنقل ذات الخصوصيات المختلفة لا تسير في اتجاه تصاعدي نحو الإندماج والإلتحام، بل تسير في اتجاه معاكس لذلك تماماً، وهذا ما يثير القلق حقاً.
 
لماذا يشعر النجدي مثلاً بأنه في حاجة إلى استدعاء ولاء المنطقة والتشديد عليها حتى في الشأن التجاري والتعليمي فضلاً عن الإعلامي والثقافي والسياسي؟. لأنه ببساطة لا يشعر بأن الولاء للدولة (أي أن يكون سعودياً) محققاً لطموحاته وآماله وحافظاً جيداً لمصالحه وحامياً لمستقبله ومستقبل عائلته. أن يكون (نجدياً) قد يعني الحصول على امتيازات إضافية لا يحصل عليها وهو (سعودي). وأن يكون نجدياً قد يعني أن تكون له الأولوية في كل شأن، وأن يكون متميّزاً بين كتل بشريّة لا يُسمح لها بالتميّز على أسس معقولة ومنطقية.. وأن يكون نجدياً قد يعني الإعتزاز بالذات ثقافة وعادات وتقاليد، وقد يعني توفير الحدّ الأقصى من الحماية.
 
إن الإلحاح على الهوية المناطقية بين نخب المركز يستهدف: إبقاء سيادة نجد في كل مرافق الحياة العامة حيث يتم إخضاع كل شيء إلى ذلك الإنتماء، فتحصر عناصر القوة الوظيفية والسياسية والعسكرية والإقتصادية والدينية في أيديهم. ويعني الإلحاح فيما يعنيه: إبقاء سيطرة العائلة المالكة بدون منافس، وهذا يعود بنا من جديد إلى أسس السلطة وتركيبتها المناطقية، وشعور الحاكمين (العائلة المالكة) والمحكومين بأن آل سعود يمثلون وجه نجد السياسي، وأنهم يسودون بقية البلد بناءً على قوّة نجد منطقة ومذهباً. فإذا ما ضعفت نجد، أو قصرت سيطرتها طمع الآخرون في المشاركة في السلطة. إن السيطرة على المملكة شأن نجدي، كما قلنا مراراً، والدفاع عن هذه السيطرة أمرٌ مفروغ منه بناءً على المحتد والمعتقد وغيرهما.
 
من جهة ثانية يلحّ عليّة القوم في الحجاز، على الهويّة المناطقيّة لأسباب مختلفة:
 
1 ـ لتوفير قدر كبير من التلاحم الداخلي، والحماية للمجموع مما يعتبر مذبحة الهويّة.
 
2 ـ للظفر بحصّة مناسبة من الحكم، من المواقع والأجهزة، من الأهمية والمكانة الإقتصادية. أو بكلمة أخرى، تعديل حصتهم لكي يكونوا شركاء حقيقيين ومنتفعين حقيقيين من السلطة. هنا يأتي دائماً تفعيل روابط المنطقة، واستذكار تاريخ الحجاز، ورجالات الحجاز، وريادة الحجاز، وتقاليد الحجاز وعادات أبنائه.. ليوظّف كل هذا بالشكل الذي يعطي الفرد الحجازي شعوراً بالظلامة، وأن له حقاً قد سُلب وعليه استحصاله بأن يعيد دولته الحجازية التي مضى على إنهائها.
 
3 ـ للدفاع عمّا بأيديهم أمام الهجوم النجدي الكاسح في كل الإتجاهات، والذي يظهر وكأنه يستعجل تجريد المناطق من الفتات الذي كان بين أيديها.
 
4 ـ وإذا لم يفلح كلّ هذا، فهناك على الأقل استثمار بعيد المدى من أجل الإنفصال، فإن استخدام المنطقة للمطالبة بحصّة صغيرة من الحكم، لا يختلف عن استخدامها للمطالبة بما هو أكبر: الإستقلال.
 
في الحجاز، تعتبر الهويّة المناطقية العنصر الأقوى في تعضيد التلاحم الداخلي، يأتي بعده دور المذهب السنّي (الشافعي والمالكي).. والنخبة الحجازية لا تستدعي روابط الدم والأصل، فهم يشعرون بأنه لا يليق بهم فعل ذلك، كون كثير منهم قد صهروا من أعراق مختلفة، وإن كان العرق العربي هو الأقوى، وقد أضحى الحجاز بلداً مدمجاً داخلياً، باعتباره تعالى على العرق والدم، وجعل الإنتماء إلى الأرض، إلى الكيان، إلى الإقليم، المحدد الأول للهويّة، ويأتي المذهب في درجة لاحقة مباشرة.
 
ومن جهة ثالثة، لا يختلف وضع المواطنين الشيعة في الأحساء والقطيف عن وضع الحجازيين. يقولون لك: انظر هذه بلدنا وأرضنا خيراتها للبعيد ونحن محرومون منها. إنهم يطالبون باعتراف أولي بخصائصهم الثقافية، وبحصّة في الحكم، وبمكانة في الدولة.
 

الإنتماء الكامل والمواطنة الكاملة: الإنتماء والولاء الوطني لمن؟
 
ـ هل هو انتماء للدولة، والوحدة السياسية القائمة، فحسب؟.
 
ـ هل يشمل الإنتماء الوطني، الإنتماء لتراث جامع موجود فعلاً؟.


 
ـ هل يدخل ضمن الإنتماء الوطني، الإذعان للنظام السياسي، وعلى رأسه العائلة المالكة كقيادة شرعية تاريخية جاء على يديها تأسيس الدولة الحديثة ومن قبلها تحقيق الوحدة السياسية؟.
 
ـ هل يخل بالإنتماء الوطني.. الإنتماء الى مذهب ديني، أو الإنحدار من منطقة من مناطق الوطن؟.
 
هذه هي المحاور الأساسية التي يدور حولها مفهوم الإنتماء الوطني في المملكة.. وهي محاور قد تبدو في جانب منها خاصة بالمملكة وحدها .
 
لا أحد يمتلك مفهوماً واضحاً للهوية الوطنية ، والإنتماء الوطني، ولكن من خلال الممارسة يمكننا تحديد معناه بالنسبة للطبقة الحاكمة واللصيقة بها. إنه يشمل أربعة امور مجتمعة وهي بالتدريج حسب الأولوية والأهمية:
 
أولها : القبول المطلق بالنظام السياسي القائم، وعلى رأسه العائلة المالكة، التي يعود اليها الفضل في تحقيق الوحدة السياسية للبلاد.
 
ثانيها : الإيمان بوحدة المملكة وترابها، والإعتزاز بتلك الوحدة ورفض أي انتقاص لها.
 
ثالثها : الإنتماء الى المذهب السلفي (الرسمي) باعتباره ضمانة وصمام أمان للولاء السياسي، ولإنجاز الوحدة السياسية التي تحققت على أسس دينية / مذهبية.
 
رابعها : الإنتماء المناطقي لنجد، التي قام على أفرادها عبء التوحيد، وكانت الأداة العسكرية والسياسية التي تحقق بها انجاز الوحدة السياسية، وهي المنطقة التي ينتمي اليها أقطاب النظام الحاكم.
 
هل يكفي الإنتماء الى الأرض ووحدة الكيان السياسي ، باعتبار أن قيمة الوحدة تخص السكان ومصالحهم ومستقبلهم ، بغض النظر عن النظام الذي يحكم؟.
 
من وجهة نظر المذكورين أعلاه.. لا. وينطوي الجواب على شيء غير قليل من الوجاهة والمصداقية، ذلك أن وحدة المملكة لم تتحقق تاريخياً لا في جاهليتها ولا إسلامها، وأن الوحدة ارتبطت بوجود العائلة المالكة واكتسبت الأخيرة شيئاً من المشروعية في الحكم لذلك. ومن جانب آخر فإن الوحدة الحالية ، وفي ظل عدم وجود بدائل للنظام القائم ، أو وجود بدائل أسوء منه، سيفرط بوحدة البلاد، أو يعرضها للتفكك . ولأن الوحدة ارتبطت بالنظام السياسي القائم ، فإن المتوقع مع انهيار هذا النظام انهياراً شبه حتمي للوحدة نفسها التي ارتهنت بالعائلة المالكة، خاصة مع عدم وجود انتماء وطني قوي للكيان القائم في مختلف المناطق.
 
وهنا، قد يكون من المقبول والمعقول، أن يتمحور الإنتماء الوطني حول كيان المملكة الموحدة، وحول النظام الذي يديمها ، بغض النظر عن وسائله التي يستخدمها وهي لا تصب في مجملها مصباً وحدوياً .
 
لكن السؤال المدهش.. لماذا لا يكتفي النظام القائم في تعريفه للإنتماء الوطني، بالولاء للدولة ولنظامها السياسي؟.
 
لماذا لا يشعر القائمون على الوحدة السياسية بالإطمئنان ـ في موضوع الإنتماء الوطني ـ إلا بإدخال عنصرين إضافيين: مذهبي ومناطقي، وهما كما يتبادر لأول وهلة نقيضان أو معارضان للإنتماء الوطني؟
 
ربما يُنظر الى العامل المناطقي والمذهبي كأداة انشقاق، وقد يتحول الى بديل عن الإنتماء الوطني في ظرف من الظروف. وهنا نرى أن النظام السياسي الذي ينظر بخشية الى هذا النوع من الإنتماءات، رسخها بطريقة معالجته، حين اعتبر الإنتماء الى المذهب السلفي وحده (مكملاً) للإنتماء الوطني، وأن الإنحدار من منطقة معينة يزيد في اطمئنان النظام الى الولاء.
 
إن العوامل التي دفعت النظام الى اعتماد المذهب والمنطقة لها جذور تاريخية تتعلق بالأُسس التي قامت عليها وحدة المملكة وبناءها الحديث ، وكان يجب التخلّص منها ، أو تحييدها من أجل ايجاد ولاء جامع بين المواطنين، خاصة في قضايا لا يملك المواطن سلطة عليها ، وكل ما ينتقص من وطنيته هو أنه ولد لأبوين يختلفان في المذهب أو المنطقة!
 
وهنا نرى أن المواطن الكامل (مواطن الدرجة الأولى) هو الجامع لعناصر الإنتماء الوطني الأربعة، حتى وإن كان غير متدين، وحتى لو سكن في منطقة غير المركز، وبناء على ذلك لا أحد في الغالب ينتقص وطنيته ويشكك في انتمائه، أو يهتضمه حقوقه وامتيازاته.
 
وما يسترعي الإنتباه أن الحكومة لا تستطيع أن تطلب ولاءاً من مواطنين وسيف التمييز مسلط على رؤوسهم. وكيف تطلب إنتماءاً وطنيّاً صادقاً، وهي في ذات الوقت تهددهم بالنفي والطرد من موطن آبائهم وأجدادهم، وكأنهم ينتمون الى عالم آخر، أو دولة أخرى؟.
 
وللعبرة والدلالة نسوق هذه النص الحكومي الرسمي:
 
(لا أحد مجبرٌ على العيش والعمل في السعودية برغم إرادته. وإذا كان كارهاً لقوانينها وضوابطها، فعليه أن لا يختارها للعيش فيها. أمّا إذا اختارها فعليه أن يحترم ويقبل ـ وبكل دقـّة ـ كل قوانينها وضوابطها، وإذا ما خالفها، فإنه معرّض للعقوبات الموجودة والقائمة).
 
هذا النصّ هو جواب رسمي على استفسار قدّمته لجنة من الأمم المتحدة خاصة بالتمييز على أُسس دينية، فيما يتعلق بمعاملة الحكومة السعودية لمواطنيها الشيعة، وما يتعرضون له من اعتقالات عشوائية ، وقد جاء الجواب آنف الذكر في 14 نوفمبر 1990.
 
لا يمكن لأي متمعن لنـص الجواب الرسمي إلاّ أن يقف إزاءه حائراً مندهشاً، يقلّب معانيه ويفسّرها على أكثر من وجه فلربما وجد مبرراً لهذا الجواب، حتى لا يسيء فهم مقاصده.
 
لجنة دولية تسأل عن وضع المواطنين الشيعة : بإمكان الحكومة أن لا تجيب عن التساؤل من الأساس لأن موضوع الإضطهاد مسألة داخلية ، وهي حجّة قد تلقى بعض القبول .
 
وبإمكانها أن تجيب باقتضاب أيضاً، بأنها لا تميّز بين مواطنيها، وأنها تعاملهم على قدم المساواة مع بقيّة المواطنين في كل الأمور. بإمكانها أن تجيب بهذا، حتى وإن كان الجواب غير صحيح أو غير مقنع.
 
ولكن المدهش أنها قدّمت للمنظمة الدولية إجابة تدينها وتستفزّ كل من يقرؤها .
 
ما تفيده الإجابة أبعد في المعنى مما قد يتبادر للوهلة الأولى.
 
فهي تفيد بأن المواطنين الشيعة ليسوا أُصلاء في وطنهم، فإذا أعجبتهم المملكة فليقبلوا بقوانين الحكومة ـ وفـي الحقيقة بسياسة التمييز التي تنتهجها ـ وإن لم تعجبهم فعليهم بحزم حقائبهم والعودة من حيث جاؤوا ! .
 
والحال هو غير هذا ، فالشـيعة هم سكـان المنطقـة الشرقيـة الأصليـين.. هم أصحاب المنطقة وأهلها على مر القرون ، ولا يمكن لأحد أن ينازعهم على أرضهم وموطن أجدادهم .
 
النص يقول: من أراد البقاء فليبق شرط الطاعة والخضوع، وإلاّ فليرحل عن هذه البلاد. من يقبل بقوانين التمييز يبقى، ومن يعارضها فليخرج من وطنه الى المنفى، فهو لم يعد وطنه!.
 
هذه هي الرسالة.. الرسالة التي تقول أن هذا الوطن هو للموالين، ولا مكان للمختلف، ولمن يرفض أن يتخلّى عن هويته وتقاليده وتراثه الناشيء من أرضه على مرّ القرون.
 
كان وجهاء الشيعة وأثناء الإحتداد مع مسؤوليهم المحليين ، يستمعون من الأخيرين مقولة: من لا يعجبه نظام الحكـم ، فـليخـرج مـن المملكة.. هكذا!
 
وكان الإعتقاد الأولي أن ما يصدر عنهم ، إنما يصدر عن غضب وعصبية، ولا يمثل السياسة الرسمية، أو هدفاً حقيقياً، أو أمنية يريدونها.
 
كان الواحد من الوجهاء يمرّ مرور الكرام على تلك الألفاظ النابية المهينة لسكان أصليين كانوا وكانت مناطقهم منابع الخير ولاتزال. أما وقد أصبح الأمر يقال علناً ، ويتحدث عنه بصفة رسمية لمنظمة رسمية، فذلك أمرٌ لا يمكن أن ينظر إليه إلا بعين القلق والرهبة.
 
كيف تقنع مواطنين بالولاء لنظام حكم يتمنّى إخراجهم جملة وتفصيلاً وطردهم من أرضهم؟!.
 
وكيف تفرض حباً على شريحة غير قليلة من السكان لا تلقى سوى التهديد بالقتل والطرد واستخدام العنف؟!.
 
بل ما قيمة الولاء ان لم يخرج صادقاً من القلب بدون تملّق ولا تكلّف أو خوف؟.
 
لا يجب أن نعطي الجواب الرسمي أهمية تفوق حجمه ـ رغم أنها ليست المرة الأولى التي يدعو فيها المشحونون طائفياً الى هذا النوع من الحلول ـ أو نفسّره بشكل قسري، ولكن لا بدّ وأن يوضع في سياق الأحداث الجارية، ونحاول من خلاله التوصل الى كيفية تفكير بعض المسؤولين وأهدافهم من إشاعة مثل هذه الأحاديث المنذرة بالخطر، والتي تعطي تبريرات أكثر من كافية لشحذ الروح الإنفصالية[1].
 
وخلاصة القول: أن الإنتماء الوطني لشرائح كبيرة من المواطنين وفي شتى المناطق ومن مختلف القبائل ناقص من وجهة نظر الحكومة، ومن وجهة نظر المؤسسة الدينية الرسمية، وقد تمّ التعبير ويتم بعبارات صريحة من قبل المسؤولين المحليين: كالقول بأن عليهم أن يثبتوا وطنيتهم. هذه الوطنية لم توضع على المحكّ لإثبات صدقها من عدمه. فلربما ظهر في أوقات الأزمات الحادة أن المدافعين عن النظام اليوم والمنتفعين منه أبعد ما يكونوا عن الدفاع عنه وعن وحدة المملكة نفسها، ولربما ظهر أيضاً من أولئك المتهمين في وطنيتهم، أنهم أكثر صدقاً واستعداداً للتضحية من أجل وطنهم.
 
 26-08-2002
 
 
 
 
 
 
 
--------------------------------------------------------------------------------
 
[1]  في يناير 1927 ، الموافق للثامن من شعبان 1345هـ ، أفتى مشايخ المذهب الرسمي بنفي الشيعة في الأحساء والقطيف عن (بلاد المسلمين!) ، بينما كانت منطقتهم ثاني منطقة تدخل الإسلام بعد المدينة المنورة ، وكان فيها الى عهد قريب آثار ثاني مسجد في الإسلام أُقيمت فيه صلاة الجمعة (مسجد جواثى) . لقد أفتوا بأن ينفى المواطنون الشيعة إن لم يقبلوا وينصاعوا لمقتضيات الفتوى التي تقول : (أما الرافضة في الأحساء ، فأفتينا الإمام أن يلزمهم البيعة على الإسلام ـ أي أنهم كفرة ـ ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل ، وعليه أن يلزم نائبه على الأحساء أن يحضرهم عند الشيخ إبن بشر ويبايعونه على دين الله ورسوله ، وترك الشرك من دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم ، وعلى ترك سائر البدع في اجتماعاتهم على مآتمهم وغيرها مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل ، ويمنعون من زيارة المشاهد ويلزمون بالإجتماع على الصلوات الخمس هم وغيرهم في المساجد ، ويرتب الإمام ـ إبن سعود ـ فيهم أئمة ومؤذنين ونواباً من أهل السنّة ، ويلزمون بتعلم الثلاثة الأصول ـ كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو يمثل خلاصة فكره ـ وتهدم الأماكن المـبنية لإقـامة البـدع فيها ، ويمنعون من إقامة البدع في المساجد وغيرها ، ومن أبى قبول ذلك يُنفى عن بلاد المسلمين. وأما رافضة القطيف، فيلزم الإمام أيده الله الشيخ ابن بشر أن يسافر اليهم ويلزمهم بما ذكرنا).
 
وبعد أحداث المحرم الدموية في المنطقة الشرقية سنة 1400هـ، أرسل الوجهاء برقية الى الملك خالد، في الخامس من صفر 1400هـ، شرحوا فيها ما حدث : الإستفزاز الحكومي ، القتل، الإعتقال، فرض حظر التجول، الطائرات وقصفها للمواطنين ، الحرب الحقيقية في الشوارع ، وتحدثوا عن أسباب الأزمة وجذورها .
 
وفي 25 من الشهر نفسه رد الملك في برقية نفى فيها أن تكون القوات الحكومية قامت بتعديات ، ونفى أن يكون هناك قتلى وجرحى وقد كانوا بالمئات ، واتهمت البرقية المواطنين الشيعة بأنهم اعتدوا على المراكز الحكومية. ومما جاء في برقية الملك جملة ذات دلالة تقول أن من شاء (البقاء فليبق) أي من أراد أن يبقى في هذه البلاد فليبق أو فليخرج إن كان يريد المعارضة، أو لم تعجبه السياسة الرسمية. ولقد هزّت تلك العبارة الوجهاء هزّاً عنيفاً وردوا في رسالة الى ولي العهد في 11 ربيع الأول 1400هـ، قالوا فيها: (وإننا لباقون في بلادنا، مهد أجدادنا وأحفادنا رغم كل ما يدبره المغرضون، ولن نخرج منها ولو أُرغمنا).
 
 
 

copy_r