gulfissueslogo
إشكاليات الوحدة والإنفصال في المملكة العربية السعودية (1)
د. خالد الرشيد

 المراقب لأوضاع المملكة عن قرب، يرى نزوعاً متزايداً عند كثير من سكانها لجهة تنشيط الولاءات القديمة التقليدية، يقودها مجموعة من المثقفين ورجال الدين في عدد من مناطق البلاد. ورغم أن وجود الولاءات المتعددة للقبيلة أو المنطقة أو المذهب، ليس بالضرورة متناقضاً مع الولاء للوطن والمجتمع.. إلاّ أن النزوع الحالي والجماعي، يعدّ من أخطر الظواهر التي شهدتها البلاد منذ تأسيسها، لأن القوى الدافعة والمشجّعة على تأكيد هذه الولاءات تحمل في طياتها دعوات الى الإنفصال عن جسد الدولة الأم، وإن الإلتصاق بتأكيد الخصوصيات الذاتية وتأييدها وتبجيلها والدعوة إليها، لا يستهدف مجرد الإحتماء من جور النظام السياسي، وإنمّا يتمّ اليوم توظيفها في الصراع السياسي ليصار في مرحلة لاحقة الى تأطير الوضع المحلي كقوة سياسيّة تتجه نحو الإنفصال.
 
ومما يجعل الإتجاه نحو تأكيد الذات خطراً في هذه المرحلة، هو أن الظروف الدولية والداخـلـيّة تشجّع دعاة الإنفصال في دعوتهم ودعاواهم.. فالولايات المتحدة الأميركية كإدارة بدأت وبشكل مكشوف الحديث وإعلان الرغبة في تقسيم المملكة، هذا الحديث يتكرر الآن وبصورة حادّة خلال عقد من الزمان (أي منذ أزمة احتلال الكويت وما تلاها) مع اختلاف بيّن بين المرحلتين، ففي الأولى كان الخطر (المزعوم أو الصحيح) آتياً من ثلاث دول مجاورة لها مصلحة أو رغبة في التتقسيم، هي العراق والأردن واليمن. أما اليوم، وحال العراق معروف، وتسوية الحدود مع اليمن قد تمّت، فإن الخطر الهاشمي كان كما هو الآن مصدر خطر حقيقي بالنسبة للعائلة المالكة في السعودية.. والفارق الآخر بين المرحلتين، أن الولايات المتحدة الأميركية وأطرافاً دولية وإقليمية أخرى بينها إسرائيل، أصبحت مصدراً أكبر للخطر على وحدة المملكة، وهو أمرٌ لم يكن موجوداً في فترة التسعينيات من القرن الماضي. فإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد تحركت قبل عقد من الزمان بحجة الحفاظ على أمن ووحدة المملكة من صدام حسين، فإنها اليوم بنفسها تقود الجهد السياسي والإعلامي الذي ينظّر لكيفية تقسيم المملكة.
 
غير أن ما يجب الإعتراف به حقاً، وهو أمرٌ لم يحدث حتى الآن، أن إرادة تمزيق المملكة ليست إرادة أميركية وإقليمية (إسرائيلية وأردنية وربما خليجية) فحسب، وهذه الإرادة لا تكفي لإنجاح مثل هذا النوع من المخططات، بل أن هناك إرادة محلية من أطراف وجماعات داخل المملكة ليست راغبة في ديمومة الوحدة، وهذا هو أخطر من التهديد الخارجي نفسه. من المدهش حقاً أن نرى اليوم أن عدداً غير قليل من النخب (السعودية!) لم تعد تنظر الى موضوع الإنفصال وتفكيك المملكة وكأنّه شرّ مقيت يخجل المرء أن يوصم به.. فالوحدة السياسية القائمة لا تستثير ـ بنظر البعض ـ رغبة أطراف عديدين في ديمومتها، باعتبارها من مخلفات عصر الهزيمة على أيدي القوات الوهابية ـ النجدية، وقد فرضت في ظروف مختلفة تماماً عن الظروف الحالية، وكأنهم هنا يريدون تقويض هذه الوحدة، أو في أفضل الظروف إعادة تشكيلها بصورة مختلفة، استكمالاً للصراع الذي دار في الجزيرة العربية في العقدين الثاني والثالث من القرن الميلادي الماضي، والذي توّج بانتصار عصبيّة نجدية مذهبيّة غالبة.
 
كما أن وحدة المملكة المهددة لم تستثر صانع القرار المحلي (العائلة المالكة بالدرجة الأولى، والمؤسسة الدينية الرسمية/ الوهابية بدرجة ثانية، والنخبة النجدية الحديثة بدرجة ثالثة) الى الحد الذي يدفعه باتجاه مراجعة مجمل سياساته المحلية وسدّ الثغرات لمواجهة الخطر الذي يفترض أنه يصيب مصالح صانعي القرار أنفسهم بأفدح الأضرار.
 
 
 
 
 

أزمة دولة ومجتمع


 
 
المملكة بلد متعدد في مناطقه ومذاهبه وثقافاته ومناخه واقتصاده وعاداته وقبائله وتاريخه السياسي. وكل منطقة من مناطق المملكة لها حدود جغرافية تاريخية معروفة، ولها تميّز ثقافي ديني إقتصادي تاريخي خاص بها. هذه الحقيقة يرفض البعض إدراكها أو يسعى للقفز عليها بالسعي الخاطئ لكي يكون المجتمع السعودي متجانساً ولو بالقوة، بحيث تفرض على شرائح المجتمع ثقافة غير وطنية وسياسات تعمّق المشاعر المعادية، وتهدد النسيج الإجتماعي والسياسي برمته.
 
والمملكة تتكون من أقليات مناطقية ومذهبية، حيث لا توجد أكثرية سكانية مذهبية، ولا أكثرية سكانية مناطقية. هذا أشعر جميع سكان المناطق بأنهم أقليّة بالقياس الى مجمل السكان، خاصة بين نخبة الجماعة والمنطقة المسيطرة التي تدرك حجمها الحقيقي، وتدرك حجم القوة التي بيدها، كما وتدرك حساسية استحواذها على السلطة وما يثيره ذلك من مشاعر الغضب. بديهي أن المملكة لا تحكمها أكثرية سكانية مناطقية، ولا أكثرية مذهبية، لأن الخارطة السكانية متوائمة مع الخريطة المذهبية. وربما كان (تعويم) عدد السكان واعتباره سرّاً يعكس خوف الأقليّة الحاكمة، التي تحاول الغمغمة على هذا النوع من الموضوعات ذات الحساسية الشديدة والتي تتعلّق بجوهر السلطة.
 
أيضاً فإن هناك مشكلاً هيكلياً في الدولة نفسها، فهي دولة قامت على أساس الحرب الدينية ـ المذهبية، المتوازية مع التوسع الإحتلالي والضمّ والإلحاق لمناطق أخرى اعتماداً على عصبية غالبة طبعت الدولة بطابعها حتى اليوم.
 
في كثير من دول العالم الحديثة، قامت وحدات سياسيّة فُرضت بالقوة.. في ألمانيا على يد بسمارك مثلاً، أو الولايات المتحدة نفسها.. لكن هدف هذه الحروب المعلن والأساس كان الوحدة، بشكل تنصهر في داخلها الإنتماءات المتضاربة، وتتداخل المصالح فيما بين السكان، ويتم تداول السلطة بشكل سلميّ، والحفاظ على الخصائص الذاتية للأقاليم أو الولايات أو المناطق أو المقاطعات أو حتى المذاهب الدينية والسياسية، بقدر لا يتعارض مع الدولة ومفاهيمها. وفي بلدان كهذه يندر أن تنمو الإنتماءات التي يمكن وصفها بالإنشقاقية رغم أن موجة من الدعوات المناطقية والإنفصالية تجتاح معظم دول العالم، ويتم التعاطي معها بكثير من الحذر والحكمة وبقدر قليل في الغالب من العنف والقسوة.
 
هذه الحال لم تكن موجودةً في المملكة.
 
فأصل الوحدة كقيمة حضارية لم يكن مستهدفاً. كان المستهدف بحق هو: توسيع رقعة السيطرة وزيادة موارد الحاكم. حتى الشعارات الأولية التي رُفعت كانت تطفح بذلك قبل أن تتحول الى الشعار الديني، مثل (عودة ملك الآباء والأجداد). كان المراد توسيع رقعة السلطان وبالأسلوب العسكري، ولم تأت الوحدة إلاّ بشكل عرضي، إذ لم تكن هي المقصودة بذاتها.
 
ومن هنا حملت الدولة السعودية الحديثة معها بذرة تفككها، وهي قابلة للفناء أو النمو حسب المناخ المتوفر. لقد كان تحقيق الحُلم ببناء مملكة واسعة الأرجاء، مرتبطاً بأمرين:
 
الأول: نشوء عصبيّة مناطقيّة لها مطامح توسعيّة تُستخدم كأداة في السيطرة، ولما كانت تلك العصبيّة من الضعف بحيث لا يمكن لها مقارنة العصبيات المحليّة في الحجاز والجنوب وربما في حائل ـ شمال نجد ـ.. فقد أُضيف لتلك العصبيّة عصبيّة مذهبيّة، حيث أُعيد تأكيد دور المذهب (الدعوة السلفية) ونشأت حركة الإخوان في 1914م، كحركة عقائدية عسكرية وكأداة إلحاق وإخضاع وسيطرة لحائل وعسير وجيزان والحجاز.
 
الثاني: نشوء علاقة استتباع وضمّ وإلحاق.. علاقة العصبيّة الإقليمية والمذهبيّة الغالبة ببقيّة العصبيات المغلوبة.. وقد كانت هذه العلاقة أساس الوحدة، وهذا يفسّر لنا الى حدّ ما سبب إستمرار الصراع بين المناطق والمذاهب والإنتماءات، ويفسر لنا أيضاً صعوبة الإدماج الحقيقي بين المجتمعات التي تتشكل منها البلاد.
 
المملكة ككيان سياسي حديث لم يمض على تشكّله أكثر من ثمانية عقود، ترتبط الأقاليم المكونة له بوحدة شبه قسرية، معرّضة للكثير من المخاطر، أهمها أن السلطة السياسية القائمة لم تستطع حتى الآن خلق هوية وطنيّة جامعة لأفراد هذا الكيان، تنافس الولاءات المتعددة للإقليم أو المذهب أو القبيلة.
 
ومن جهة ثانية، لا يرى الكثير من أبناء المملكة، في النظام السياسي القائم ممثلاً لكل البلاد بمجتمعاتها المتعددة، وخياراتها الثقافية المختلفة، واقاليمها التي تتضمن في أحيان كثيرة تعبيرا عن انواع من الخصوصية. وقد اعتبرت سيطرة العائلة المالكة على أقاليم الجزيرة العربية التي تشكل كيانها السياسي المعروف بإسم (المملكة العربية السعودية) انتصارا للداخل الصحراوي على الساحل والاطراف ذات الوجه الحضري، وانتصاراً للمذهب الوهابي على المذاهب الأخرى، وانتصاراً إقليمياً لنجد على سائر الأقاليم.
 
الهوية النجدية: لا توصف العلاقة بين الداخل الصحراوي الذي تمثله نجد، وبين أقاليم الساحل، وعلى مر التاريخ، بأنها علاقة حسنة.. فقد كان الإقليم الصحراوي أكثر إغراقاً في العصبيات القبلية، وأقل ميلاً للخضوع الى السلطة المركزية، خاصة اذا كانت تلك السلطة تتخذ من الساحل مقراً لها. وحتى في عصر الإسلام الأول، رأينا أن الحواضر المدنية أو الريفية في اليمن والبحرين (هجر والخط وأوال، والتي تسمى في الوقت الحالي الأحساء والقطيف والبحرين) كانت أسرع إنقياداً للدعوة الإسلامية.
 
وإقليم نجد وإن كان قد خضع ردحاً من الزمن ـ وبشكل صوري وإسمي في الغالب ـ الى السلطة المركزية التي مثلتها المدينة المنورة أو الكوفة أو دمشق أو بغداد.. فإن سكان هذا الإقليم قادوا العديد من التمردات التي يمكن وصـفها بأنّـها تمـردات ضد الحواضر، وأخذت في بعض الأحيان صفة دينية، كالتمرد الذي قام به الخوارج بقيادة نجدة الحروري، وقد لعبت القبائل النجدية دوراً سياسياً وعسكرياً هاماً في المناطق المجاورة، وبالخصوص في مناطق الشرق (ما يعرف بإقليم البحرين تاريخياً) واتخذت صفة الهجرة والإقامة في تلك المناطق الحضرية لدعم الحكم القائم هناك.
 
كانت الحواضر الساحلية في الحجاز والأحساء والقطيف، والكويت فيما بعد، رئة نجد التي تتنفّس بها والنـافـذة التي تطـلّ منـها على العالـم. ولذا كانت متأثرة ـ وليست محكومة ـ في الغالب بسلطانها، لأن زعماء الحواضر ـ كما الأشراف والخوالد ـ رأوا أن تكاليف السيطرة المباشرة على نجد غالية جداً في قبال مردود مادي محدود. حتى السلطات البريطانية في الخليج، كانت تنتهج سياسة عدم التورط في شؤون الداخل الصحراوي حتى قيام الدولة السعودية الحديثة في مطلع القرن العشرين، وبدلاً من ذلك ركزت اهتمامها على الساحل، إلاّ إذا ارتبطت أمور الساحل بتمدد من قبل سلطات الداخل.
 
لـقـد كانت أقـاليم الساحل مكتفية اقتصادياً، وكان تدخلها في موضوع نجد محدوداً، وبعبارة أوضح: أنها لم تكن تستهدف السيطرة على إقليم نجد، ويمكن الإستشهاد بحكم الخوالد والأشراف الذين لم يتدخلوا في الشأن النجدي إلا في نطاق محدود، وضمن خارطة التحالفات المحلية النجدية، لكن أحداً لم يفكر في إلحاق نجد بسلطة الساحل، بل أن خشية الحواضر من نجد كانت غير قليلة، رغم عدم وجود سلطة مركزية فيها، بل ربما لعدم وجود تلك السلطة الضابطة. فجموح القبائل وتعدياتها كان من الأمور الإعتيادية، ولذا كانت سلطات الساحل مهتمّة بمعالجة المخاطر التي قد تمتد اليها من إقليم الوسط.
 
مـن جانـب ثـان، كان الإقليم النجدي الذي تعصف به المجاعة والحروب الداخلية، وما يتبعها من هجرات كبيرة ومتواصلة الى أقاليم الساحل الحضري، يبحث عن حلّ يتغلّب به على قسوة الطبيعة من جهة، وعلى الفوضى والتناحر الداخليين.. حلّ يعطي للإقليم الصدارة في صنع الأحداث والزعامة.
 

كان إقليم نجد بحاجة الى رسالة تجديد وإحياء، فكانت الوهابية.


 
بدأت الهويّة النجدية المتميّزة بظهور (الدعوة الوهابية/ السلفية) في القرن الثامـن عشـر، فقبل هذا التاريخ يمكن القول بأنه لم تكن هناك هوية مناطقية في نجد. كل ما كان قائماً مجرد مشاعر عداء وربما حسد متبادلة بين سكان الداخل الصحراوي والأطراف الساحلية، لإعتبارات الثروة والأصل العرقـي وغـير ذلك، حيث ينظر سكان الداخل الى أنفسهم ـ في العادة ـ بأنهم أكثر نقاءاً في العنصر، بعكس السكان الحضر ملوثي الأصل، رخوي الأخلاق ـ بنظرهم ـ، في حين يتهم الأخيرون ساكني الداخل الصحراوي بالتخلّف، ويعيّـرونهم بالفقـر، وأنـهم يعيشون على هامش الحياة، وأنهم خاضعون لحاكميّة العصبيات القبليّة، فهم مجـرّد بـدو يقتـاتون على النهب والقتل، الى آخر الإتهامات والإتهامات المضادّة.
 
تمكنت الدعوة السلفية من توحيد إقليم نجد، والذي كان من أكثـر الأقالـيم تصـدّعاً، حيث الحروب المتعاظمة، والكيانات السياسية الصغيرة الهزيلة المتناثرة هنا وهناك. جاءت الدعوة الوهابية فأعطت للنجديين رسالة الى العالم من حولهم. لم تؤكد الدعوة المذهبية سيادة الأسرة السعودية الحاكمة على إقليم نجد ثم على الأقاليم الأخرى في الجزيرة العربية فحسب، بل أكدت سيادة النجدي على ما عـداه، وأهم ما حققته الدعوة هو توحيد إقليم كان من أصعب الأقاليم خضوعاً للسلطة المركزية نظراً لتراثه القبلي العصبي، ونظراً لضعف احتكاكه بالعالم الخارجي.
 
ومع ان خضوع النجديين للدعوة السلفية لم يمرّ دون عمليات جراحية عنيفة وعديدة، إلا أن الدعوة اصبحت فيما بعد جزءاً من الهوية والتراث في نجد، وأداة للتفوق ومبرراً للسيادة، ورسالة الى دول وأقاليم الجوار. ولأن الدعوة الوهابية (تسمى أيضاً بالدعوة النجدية) لا قاعدة لها في غير نجد، يمكن القول بقليل من المجازفة أنها جاءت تعبيراً عن شأن محلّي، ولحلّ مشكل نجدي بالدرجة الأساس. ومع أن السلطة السياسية التي قامت عليها الدعوة قد أخضعت الأقاليم الأخرى لسلطانها، إلا أن الأخيرين نظروا اليها كدعوة خاصة بالنجديين دون غيرهم، وأنها جاءت لحلّ مشاكل لا توجد لديهم، من قبيل التفكك السياسي، وانتشار الكمّ الهائل من الخزعبلات، كعبادة الأشجار والأحجار التي تحدث عنها المؤرخون الوهابيون كثيراً، والتي لا يوجد لها ما يماثلها في مناطق الساحل، وإن كان هؤلاء المؤرخون يرون في ممارسات سكان الساحل ـ شرقاً وغرباً ـ كما الشمال والجنوب الكثير من الشركيات.
 
بانبعاث سلطة الوهابيين في نجد وتوسيعها الى مناطق الساحل، بدأ التركيز على الهوية.. فالنجدي هو المقاتل، وهو الحاكم دون غيره، وهو المسلم الموّحد، وما عداه فكافر يجب قتله إن لم يتب ويعلن من جديد إسلامه. وديار نجد هي دار الإسلام، وما عداها فدار كفر وحرب، يجب إدخالها في الدين بالقهر وسلطان القوة، وإذا لم يتمكن الموحدون من إدخالها في حظيرة الإسلام، فإن من الواجب مغادرتها باعتبارها دار شرك يجب الهجرة منها الى حيث ديار التوحيد، مثلما قال أحد الشعراء حين استولى العثمانيون على الأحساء:
 
   والله حرم مكث من هو مسلم        في كـل أرض حـلّـها الكفار
 
وأصبحت الإمتيازات السياسية والإقتصادية ـ وفق هذه النظرة ـ خاصة بأهل نجد، ولم يكن يترتب عليهم دفع مكوس ـ ضرائب ـ لأن المكوس محرمة، ولكن لا مانع من استلامها من الكفار.
 
كان غنى الداخل الصحراوي ووجاهته مرتبطين بمقدار ما للنظام السياسي الذي يمثله من إتساع نفوذ وسيطرة على الامارات المجاورة، حيث أصبح إقليم نجد مركز السلطات الدينية والسياسية والإقتصادية والعسكرية للدولة.
 
وفي الحقيقة فإن الدعوة السلفية، استطاعت ان تخلق في نجد طبقة أثرياء، وطبقة حكام وسياسيين وطبقة من القادة العسكريين، وخلقت تطلّعاً لدى سكان الإقليم نحو الزعامة، وقد مارسها الكثير منهم في مناطقهم وفي مناطق أخرى تم ضمّها لسلطان الدولة الجديدة.. كما استطاعت الدعوة أن تخلق قاعدة فكرية توحيدية في الإقليم الأوسط، وإن فشل أتباعها في استتباع الأقاليم الأخرى على ذات القاعدة، بسبب التركيز الطائفي في الطرح، وتقديم الإجبار على الإقتناع.
 
بيد أن النجاح هذا، أخفى ملامح فشل متكررة يمكن لحاظها في تجارب الدول السعودية المتعاقبة، فأقاليم الساحل بشكل خاص، اعتبرت خضوعها للنظام السياسي والفكر الذي جاء به خضوعاً مؤقتاً واضطرارياً. ويلاحظ أن المناطق التي خضعت للسلطة السعودية المركزية في أطوارها المختلفة، لم تتبنّ المذهب السلفي الرسمي (الوهابية) في غير نجد، وإن جرى اختراق بعضها مذهبياً، ولايزال التبشير جارياً في المناطق الأخرى، مما يعزّز مقولة بعض المؤرخين بأن خضوع المناطق والأقاليم لمباديء الدعوة السلفية، يحظى بأهمية مقاربة للخضوع السياسي، وأن الإخضاع المذهبي ضمانة ضدّ الإنقلاب والتمرد.
 
ومن هذا المنطلق، كان ولا يزال يُنظر الى السلطة السياسية في المملكة والناشئة على أساس قاعدة مذهبية مناطقية، بأنها تحمل هوية نجدية، وإن كانت تلك السلطة لا تمثل النجديين بمعنى التمثيل الإختياري المتعارف عليه.
 
إن التشبّث بالدعوة الدينية السلفية، في الحاضر كما في الماضي، يعني أمرين هامين:
 
أولهما: نقل السلطة السياسية من الساحل الحضري الى الداخل الصحراوي، أي الى نجد.
 
وثانيهما: إبقـاء نجد كمركز للسلطة الدينية مع أن الأماكن المقدسة تتواجد في الحجاز، باعتبار أن نجد لا تبشّر بمجرد نظام حكم، بل وبنظام فكري مذهبي يمدّ النظام السياسي بالشرعيّة التي يتطلّبها.
 
 
 

سياسة الهيمنة والإحتكار السياسي


 
 
 
إن أحد أهم مسببات الحساسية بين أقاليم المملكة، هو شعور الكثير من أبنائها بأن نظام الحكم لم يسلب منهم سلطاتهم السياسية لصالح إقليم منافس فقط، بل وسلب ـ كما في الحجاز ـ السلطة الدينية أيضاً، والتي كان معترفاً بها في كل العالم الإسلامي، أو هو يسعى لبسط خياره المذهبي على الأقاليم الأخرى تعزيزاً لهيمنة النظام السياسي الحاكم. في حين أن نظام الحكم لا يحتاج فعلاً الى دعم مذهبي، بقدر ما هو بحاجة الى الإبتعاد عن التصنيف المناطقي والمذهبي.
 
بعد قيام الدولة السعودية الحديثة، كان من المفترض أن تكون نجد نواة الوحدة الوطنيّة، وقاعدة التوحيد السياسي والإجتماعي، والعنصر الفاعل في إرساء قاعدة التفاهم والمشاركة بين الوحدات السياسية والمجتمعية التي يمثلها البناء الحديث للمملكة، لأنها كانت الأكثر تأهيلاً بين الوحدات للعب هذا الدور الخطير. غير أن الذي حدث بعد توحيد الدولة وبغض النظر عن الكيفية، هو غلبة علاقة المنتصر بالمهزوم، واستمرار سياسات الإستتباع بدل الشراكة وفق قواعد المساواة والمواطنة. وبعبارة أخرى، فإن علاقة السيد بالمسود أسقطت من الأذهان ما يمكن أن يتبقى من معان للوحدة السياسية، ولم يعد ينظر الى الإقليم الغالب كحامل رسالة توحيد بالمعنى السياسي، فضلاً عن أن تكون بالمعنى الديني. بالعكس، صار ينظر إليه كمحتل والى توابعه السياسية كأدوات احتلال.
 
لماذا وكيف حدث ذلك؟
 
1 ـ ليس هناك من وصف يصدق على طبيعة العلاقة بين نجد والمناطق الأخرى، بأدقّ من وصف (الإحتلال الداخلي).. بمعنى وجود منطقة تتمدّد عسكرياً فتوسّع سلطانها وتدمّر النظم السياسية القائمة لدى الجوار، وتقضي على السلالات الحاكمة فيها كالأشراف، أو تعدم القيادات السياسية وتهجّرهم كما آل الرشيد في حائل، وعبد الحسين بن جمعة في القطيف، وتفرض حكمها المباشر عبر أمراء منها، وكذلك ثقافتها ورجالها وتاريخها، وتحتكر الثروة، وتبقي كل ذلك حياً مكشوفاً أمام الأنظار بقوة العسكر الذين هم منها.
 
هذا باختصار توصيف دقيق لعلاقة المنطقة المسيطرة بنظيراتها.
 
هناك بين علماء الأثنيات من يحدد خمس حالات لطبيعة العلاقات بين الجماعات:
 
ـ الحالة الأولى، الإدماج المتعدد الأبعاد الى درجة الإستيعاب التام، وهذه أبعد ما تكون عن الوضع السعودي.
 
ـ الحالة الثانية، الإدماج للجماعات سياسياً ومصلحياً مع منحها الإستقلال الذاتي في المجال الثقافي.
 
ـ الحالة الثالثة، الإستقلال الذاتي ضمن فيدرالية، بحيث يتم تقاسم السلطة على أساس الشراكة التي تتناسب مع عدد السكان وموقعية الأقاليم والمناطق من الناحية الإقتصادية والإستراتيجية، وأيضاً يكون هناك استقلال كبير في الشؤون المحلية، وبالطبع حريّة كاملة في التعبير عن الخصوصيات الثقافية.
 
ـ الحالة الرابعة، الإنفصال (= الإستقلال التام). وذلك حين تفشل الشراكة، أو حين لا يتفق الشركاء، أو تُرفض الشراكة كحل، فتطلق صافرة الإستقلال، ويكون المجتمع مهيّأً لها ولدفع ثمنها، عنفاً أو حرباً أهليّة، أو ما دون ذلك.
 
ـ الحالة الخامسة، السيطرة المعرّفة بمثابة إقصاء تام للمجموعات الأخرى بالأكراه، على النحو الذي نراه في السعودية اليوم، وهذه الحالة ليست ستاتيكية بل هي في حال تطور، لأن الخطأ لا يبقى مستمراً، وسياسة الهيمنة لا تنتج استقراراً. هذه الحالة تتطور في الغالب الى حالة أكثر استقراراً كالإنفصال أو انتهاج الفيدرالية.
 
لو أمعنّا النظر الى مناطق المملكة نفسها، الى مجموعاتها المتعددة في الثقافة والتاريخ، لوجدنا أنها مقسّمة الى عدّة مجموعات متوازنة (مذهبياً، سكانياً، جغرافياً):
 
ـ فمنطقة (نجد) المسيطرة على كل مناحي الحياة في المملكة، ليست أكبر المناطق حجماً، ولا أغناها موارداً، ولا أكثرها سكاناً، ولا أعرقها تاريخاً، ولا تحظى بتميّز في أمر آخر ثقافي كان أو غيره قياساً الى مناطق المملكة الأخرى. وهنا فإن التقسيم العددي لا يعطي المنطقة المركزية في أفضل الفروض وبتسامح كبير نسبة تزيد على 20% من عدد السكان.
 
لسنا في المملكة، أمام مجموعة كبيرة مسيطرة هي الأكبر، وثانية صغيرة مشاغبة قوية، كما هي الحال في سيريلانكا، وليس الوضع كما لو كان هناك جماعة قوية مسيطرة كبيرة، والى جانبها عدّة جماعات صغيرة متناثرة أو وسطية الحجم. ولسنا كما في ماليزيا: مجموعتان متوازنتان من حيث القوة والتأثير وإن كانتا تختلفان من حيث الحجم: الملاويون والصينيون. بل المملكة تنقسم باختصار الى مجموعات ثقافية ومناطقية صغيرة تشكل كل منها ما بين 20% و 30% من مجمل تعداد السكان. نقول هذا رغم أن الإحصاءات تعوزنا، فالوهابية السياسية قرّرت أن لا تقدّم إحصاءات بل لا تجريها، والمرّة الوحيدة التي أجرتها تلاعبت على الأرجح في أرقامها.
 
2 ـ الذي حدث بعد سيطرة الملك المؤسس على أقاليم البلاد المختلفة وتوحيدها، هو أن ما ترتّب على الوحدة القسريّة كان قيام علاقات سيطرة وتبعيّة وإلغاء الخصوصيّة السكانـيّة لكل إقليم. بينما كانت الحاجة ماسة الى إتباع سياسات جامعة، موحّدة، واستخدام آليّات معيّنة في تركيز مفاهيم جديدة وإنتماءات ومصالح تعزّز الوحدة السياسية، وتدمج السكان إجتماعياً بعضهم ببعض.
 
بمعنى آخر.. كانت هناك حاجة ماسة الى بزوغ هوية وطنيّة، وثقافة وطنية، ومصالح وطنيّة غالبة، وهذا لم يتحقق حتى اليوم. لقد خلقت ممارسات النظام السياسي مشاعر شك وعداء وحسد بين أبناء المملكة، وكان لإستخدامه منطقة بعينها في تعزيز سلطانه، أو في تجاوز خصوصيات الآخرين، أثر كبير في إشعال مرارة في النفوس.
 
في أكثر الأحيان، حين تشعر جماعة أثنية (دينية أو مناطقية أو عرقية) بأنها مهددة بالإمتصاص ثقافياً من جماعة أخرى، فإنها قد تستجيب لذلك بصورة عكسية عبر التأكيد على خصائصها الثقافية الفريدة، واستدعاء فصول من تاريخها المجيد، وفرض الفواصل مع الآخر وتدمير الجسور والروابط معه، في حركة يمكن تسميتها بـ (الحركة نحو التمايز Movement of Differentiation).
 
إن إحياء الثقافة الخاصة للجماعة نابع في الأساس من شعور الخطر بالتهديد الخارجي، والخوف من الذوبان والإمتصاص الذي يجرّ معه فقدان للهوية الخاصة. وحين يشعر قادة الجماعة بأن هويتهم مهددة تبدأ عملية الإحياء الثقافي الخاص بتأكيد تاريخها الإنفصالي وبخلق العداوة مع الآخر لشحذ الهمم الداخلية وتوحيدها أمام العدو المفترض، كما وتستدعى ذكريات الإهانة التي تعرضت لها الجماعة على يد الجماعة المنافسة والإجحاف الذي لحق بها لتشكل الوقود الدافع نحو تعزيز الهوية الخاصة. وفي بعض الأحيان يجري تنقية اللغة الخاصة أو اللهجة من الشوائب الخارجية التي تسربت من الجماعة المجاورة، وحتى الممارسات الدينية تُطهر بنفس الطريقة بحجة العودة الى الأصالة والطهر والصفاء والعقيدة الصحيحة. وبهذا تصنع الهويّة من جديد أو يعاد تشكيلها جنباً الى جنب الإحياء الثقافي وتتم صناعة الحدود ورسمها بين الجماعة والجماعات الآخرى بالشكل الذي يجعل اختراق هذه الحدود أمراً صعباً للغاية على الأفراد. وينبغي ملاحظة أن الجماعة التي تصقل سيف اختلافاتها مع الآخر خوفاً من فقدان الهوية تصبح في النهاية داعية للإنفصال بشكل قوي.
 
أيضاً فإن الجماعة التي تحقق أهدافها السياسية على أسس ثقافية (تشمل الدين) تميل على الأرجح الى تأكيد تلك العناصر التي ساعدت على تحقيق الأهداف. فالوهابية مثلاً أصبحت دين الدولة الرسمي بعد أن تمّ تشكيل الدولة وتأسيسها، مثلما في بورما اعتبرت البوذية ديناً رسمياً، ومثلما في سري لانكا اعتبرت اللغة السنهالية لغة الدولة رغم أنها كانت لغة ميّتة مقابل التاميلية (لغة المثقفين) ولكن جرى إحياء الأولى وتسويدها.
 
إن شعور سكان المناطق غير النجدية لم يتغير في الوقت الحالي في أحسن الأحوال عن وضعه منذ أن قامت الدولة، وفي أسوئه: تصاعد الشعور بالغربة داخل الدولة لفئات اجتماعية عديدة ترى أنها غير معنية بدولة هي أقرب ما تكون في خصائصها ـ حسب نظرهم ـ الى (النجدية) منها الى (السعودية).
 
تنجيد المملكة: إذا كانت ظروف تأسيس المملكة قد استدعت سيطرة إقليم بتراثه الثقافي والمذهبي على بقيّة الأقاليم وطبعها بطابعه.. فإن المعاني السياسية والإجتماعية لهذا التغليب وتلك السيطرة والعمل على ديمومتها قد طعنت في أهم الأسس الدافعة والمبررة لبقاء الدولة واستمرارها. فقد حققت سياسة (تنجيد) المملكة، سياسياً ومذهبياً وتقاليد.. نتائج عكسيّة.
 
ما أدّت إليه سياسة (تنجيد) المملكة، هو أن الوحدة السياسية القائمة أصبحت رهينة الوسائل التي حققتها، ورهينة الممارسات التي مارستها العصبة المنتصرة، ورهينة الظروف الإقليمية والدولية التي ساعدت على الضمّ والإلحاق. الوحدة في المملكة رهينة القوة، وميزان القوى بين الأقاليم اليوم قد لا يخدم بالضرورة العصبة التي حققت الإنتصار قبل أقلّ من ثمانية عقود.. وقد لا يتيح الظرف الإقليمي والدولي الحالي، التوسّع في إستخدام القوة في مقاومة الدعوات الحادّة للإنفصال.
 
أيضاً ترتّب على سياسة تنجيد الدولة: بناء دولة (الخاصّة) ونقصد بها الدولة التي تحقق مصالح جماعة سكانية محدّدة، وتتبنّى سياسات تراعي فيها مصلحة فئة إجتماعية تعيش في نطاق جغرافي محدد.. مما جعل بقيّة السكان غير معنيين كثيراً بهذه الدولة، ولا ينظرون اليها كمؤسسة عامّة تخدم مصلحة المجموع، ويتساوى فيها المواطنون.. من جهة كونها دولة ذات صفات محليّة مناطقية مذهبية طاغية، وبالطبع فإن دولة كهذه قامت على أساس وحدة قسرية لن تنال الرضا في النهاية.
 
وأدّت سياسة التنجيد أيضاً الى الطعن في شرعية النظام السياسي القائم، باعتباره مجرد ممثل لجزء من الشعب، ومقاطعة من مقاطعات الوطن، وإقليم من أقاليمه.
 
وقاد هذا كلّه في مراحل لاحقة، وبصورة لافتة للنظر، وكرد فعل طبيعي من قبل بقـيـّة السكان، الى الحنين والإنشداد نحو الماضي ودولة الإقليم الخاصة التي كانت قائمة قبل عملـيّة الضمّ، واعتبارها النموذج الذي يجب أن يُعاد وأن تُنفخ فيه الروح من جديد.. فجرى التأكيد أكثر فأكثر على الإنتماءات المحليّة، وتسييس العلاقات الاجتماعية من أجل توظيفها في مشاريع سياسيّة: تبدأ بحماية الذات من جور السلطات، ولا تنتهي إلاّ بالدعوة الصريحة للإنفصال.
 
والنقطة الأكثر إثارة هي سعي بعض المناطق لإبراز زعامات سياسية ودينية محلية تنافس الزعامة الكبرى في مناطقها، كما تنافس الزعامة الدينية الرسميّة.. ومثل هذه الأمور قد تقود بشكل اوتوماتيكي ومع مرور الزمن الى قيام مجتمعات منفصلة كما لو كانت دولاً بحدّ ذاتها، خاصّة وأن الجغرافيا السياسية للمناطق، وليس الفواصل الثقافية فحسب، تدفع باتجاه ذلك. هناك تأثير واضح ومتبادل بين حدود الجماعة الأثنية وحدودها الأرضية ـ الجغرافية، فكلما كانت الحدود متميّزة واضحة قوية كلما كان تأثيرها على الجماعة قوياً، حيث تنسج حول نفسها حدوداً ثقافية مع الآخر قوية أيضاً. والعكس صحيح: أي كلما كانت الحدود الإقليمية الترابية معوّمة أو مفتوحة كلما كان أتباع الجماعة أقل ميلاً الى رسم حدود منيعة أمام التلاقي مع الآخر المختلف في الهوية والإنتماء.
 
إن مجموع السياسات المنتهجة في أعقاب توحيد المملكة، تدفع باتجاه قسري نحو الإنفصال بدل الوحدة. وكانت عناصر سياسة الضمّ والإستتباع يجرّ بعضها بعضاً في عملـيّة متسارعة.. ففي البداية لم يكن الهدف الخاص سوى الضمّ والسيطرة، وتبعه بعد ذلك مباشرة، سياسة التنجيد لحفظ المكتسبات. وفي الوقت نفسه لم يكن التنجيد ممكناً إلاّ بتذويب الخصائص المجتمعية للأقاليم المفتوحة، وتذويب خصائص الأقاليم كان يعني فيما يعنيه (إفقاد العدو!) من قواه الحيّة التي يمكن أن يستثمرها في الصراع، وكان يعني أيضاً (الإحتفاظ) بالخصوصيات النجدية والتركيز عليها وتسويدها، والتعامل على أساسها باعتبارها قوّة تضاف لعناصر السيطرة والتمكين، فالتمسّك بها وتمتين اللحمة النجدية عنصر تفوق في الصراع المناطقي، وقد قاد فيما سبق الى الإنتصار.
 
كان من الصعب على نجد، بل مستحيلاً، هضم التمايزات المختلفة، ونقصد بالهضم: عمليتي التذويب والإمتصاص معاً. كان الحجاز على سبيل المثال أقسى من أن تتحمله المعدة النجدية نظراً لحجمه السكاني وتراثه السياسي المستقل.. وكان من المستحيل أيضاً هضم سكان الشرق لأن المذهب والخصائص المحليّة السياسية وغيرها، لم تكن قابلة للتطويع حتى وإن حقق المذهب المنتصر نجاحاً عسكرياً وسياسياً.
 
لقد كان وجود تراث سياسي إستقلالي في مناطق المملكة المختلفة، يتغذّى على التمايز القبلي أو المناطقي او المذهبي وعلى الفوارق الإقتصادية والإجتماعية، جعل مهمّة حكم هذه المناطق صعباً للغاية، خاصة وان ذلك التراث التاريخي المتنوّع يظل موضع مقارنة مع الوضع القائم، ويبقى مغذياً لطموح السكان في أن تكون لهم الصدارة في حكم مناطقهم، أو في المشاركة في حكم البلاد التي تأسست على أنقاض دولهم واماراتهم.
 
هناك فشل من نوع أو آخر في تحويل الوحدة القسرية التي ابتنيت على أساس عصبيّة مذهبيّة مناطقية، ووفق قاعدة الخضوع للمنتصر، الى وحدة حقيقيّة قوامها الإندماج الوطني والإنتماء الحقيقي، بمعنى تحويل وحدة (الضرورة)، وهي وحدة القوة، الى وحدة المصلحة والقناعة.. إذ لو تم ذلك، لكان بالإمكان اليوم تجنّب الكثير من هواجس القلق على مصير الوطن بأكمله.
 
من الصعب الإجابة اليوم على أسئلة مثل: كيف يمكن لدولة أن تحارب العصبيات المناقضة لمفاهيمها، في حين أن أُسسها وقيمها عصبيّة محليّة؟ وكيف يمكن لدولة تستهدف تأكيد الإنتماء الوطني العام الجامع، أن تسمح لعصبية محليّة بتسويد هويّتها وتعميمها على المجتمع والدولة؟ وكيف يمكن محاربة الإنتماءات المتعددة بمنطق الإنتماء المحلي، وليس وفق مباديء الدولة الجامعة؟.
 
لا يكفي أبداً، أن تؤسس وحدة سياسية.. بل المهم جداً، هو توظيف هذه الوحدة السياسية لخلق الإندماج الحقيقي الشمولي والإنتماء الوطني، وتثميرها مصلحياً لعموم السكان، وإيجاد مفاهيم جامعة وروابط وطنية تتسامى على الإنتماءات الضيقة. من المهم حقاً، وهذا ما عجز عن فهمه المسؤولون، العمل الدؤوب لترسيخ قيم الوحدة، وإشعار كل مواطن بأن له مصلحة في بقائها واستمرارها، دون أن تحرمه من ثقافته الخاصة.. وبقدر ما تنمو الولاءات والإنتماءات الكليّة (الوطنيّة)، تتقلّص الإنتماءات الجزئيّة، أو يضعف تأثيرها، وتصبح مجرد غذاء روحي للذات، وليس مصدر انشقاق وانفصال.
 
الوحدة يجب أن تبنى على المساواة وعلى قيم عامة تحوز رضا الأكثريّة، وهذا يحتاج الى جهد خاص لسنين طويلة، في حين أن الإنتماءات الجزئيّة لا تحتاج الى جهد لتثميرها.. بل هي موجودة من تلقائيتها.. وهي ليست ضارّة إلا بقدر ما يفشل النظام السياسي في وضع البديل الأفضل لها، فلا أحد يتخلّى عن هويّتة الخاصة الى هويّة جامعة إلاّ إذا رأى ان مصلحته وكبرياءه يتحققان عبرها، وإلاّ فإنه ينكفيء على نفسه وانتماءاته الذاتيّة، ويوظّفها سياسياً لحماية نفسه ولإسترداد ما يعتبره حقاً مضاعاً، أو ـ إذا عجز عن ذلك ـ الدعوة لبناء دولته الخاصة به.
 
 
 

فشل سياسة الدمج القسري


 
 
لماذا فشلت العائلة المالكة في دمج السكان (السعوديين) مصالح ونفسيات؟
الإجابة تبدو سهلة: إنها نفس الأسباب تقريباً التي أدّت الى توحيد المملكة.
 
ـ إن العصبية المذهبية  التي كانت عاملاً محورياً في خلق الدولة السعودية الحديثة، من جهة مساهمتها في خلق العصبية المذهبية ـ المناطقية الضرورية لنشأة الدولة، وفي توفيرها الغطاء الشرعي للقيادة السياسية.. تحولت اليوم الى عامل تشطيري حاد داخل المجتمع السعودي. هناك أمر واضح للغاية ينبغي الإلتفات إليه، وهو أن الدعوات الى الإنفصال، أو الشـعور بالـحاجة إليه، كان يترافق دائماً مع فترات التشنّج التي تعيشها البلاد، وفي الغالب أيضاً.. فإنه كلّما تصاعدت حمّى العصبية المذهبية، رافقها التمييز المتشدد بين المواطنين، ورافقها دعم النظام السياسي لها أو مجاراتها خوفاً منها، فيتبعها كرد فعل تمحور حول الذات من قبل الآخرين طلباً للأمان النفسي بين أفراد جماعتهم وأبناء مناطقهم، خوفاً من الإستلاب والضياع، ويتعاظم الشعور بعدم القدرة على التعايش مع نجد ونظامها السياسي، وفقدان الأمل من حدوث أي تغيير سياسي إصلاحي داخلي، وتالياً لا يوجد من طريق إلاّ الإنفصال الذي يراود مجاميع عديدة في المملكة كالحلم الذي ينتظر فرصة سياسية مؤاتية لتحقيقه.
 
إن رجال المذهب الرسمي يعتقدون فيما يتعلق بالسياسة الواجب انتهاجها تجاه المختلف تقوم على ذات الأساس القديم وهو: تحويل الكفار أو المشركين (غيرهم) إلى مسلمين موحدين مثلهم. أي أنهم من الناحية النظرية يسعون إلى صهر الآخر دينياً، أي إلى إنتصار مذهبي ثقافي بالدرجة الأولى.
 
هذا ما يبدو للوهلة الأولى، وهو صحيح إلى حدّ معيّن.
 
ولكنه يختلف في العمق فيما لو تحقّق.
 
ذلك أن الصهر ـ فيما لو حدث ـ فإنه يضع الجميع في المملكة على قدم المساواة. والوهابية لم تأتِ لتغليب مذهب وصهر الآخرين فيه ليكونوا وهابيين فحسب، إذ لو كان كذلك لكانت المشكلة أهون.. ولكنها جاءت لتغليب منطقة وجماعة أيضاً. ولو حدث وأن تحول أفراد في المناطق الأخرى إلى المذهب الرسمي فإنهم لا يحصلون على المساواة، اعتماداً على قاعدة مناطقية أخرى في التمييز والتميّز عن الآخر.
 
والعقائديون الوهابيون، لازالوا يريدون الصهر ويعملون من أجله، خاصة فئة الشباب المتطرف التي ظهرت على السطح بعد أزمة احتلال الكويت.. مع أن نظراءهم القدامى اكتشفوا استحالة الصهر، وهم لا يأملون بذلك، ولكنهم يقولون بأنهم يؤدون واجبهم الديني في الوعظ بلا أمل في التغيير، بعكس رجال الدين الشباب.
 
الأخيرون يرون أن المعركة لم تنته بعد، ويجب استخدام وسائل العنف والإكراه جميعاً بما في ذلك سلطة الدولة المباشرة من شرطة وأمن وجيش لبلوغ ذلك الهدف، مع أن بعض هذه الوسائل على الأقل استخدم وجرّب في السابق دونما فائدة. لكن الوهابية العقائدية تحاول ممارسة ضغوط شديدة على صانع القرار من أجل إقناعه بمبدأ الصهر، وأهم أمر في الإقناع من وجهة نظر هؤلاء الغلاة هو أن عدم الصهر يؤدي إلى تهديد سلطة آل سعود السياسية، والوهابية وحدها من يستطيع توفير الحماية للنظام وكذلك توفير الشرعية.
 
والملاحظ أن الوهابية العقائدية شديدة الميل لاستخدام وسائل عنفية قهرية في محاولات الصهر. فهي لا تؤمن بمبدأ الإغراء، ولا تؤمن بمبدأ التدرّج، ولا بالأعتدال.
 
ـ عدم قدرة العائلة المالكة في الظهور بمظهر الممثل سياسياً (وإن لم يكن الأمر إنتخابياً) لكل مناطق المملكة وشرائحها الإجتماعية المتعددة، وإصرارها على تأكيد الروح المناطقية التي خرجت من أحضانها وقادتها نحو زعامة الدولة. وهذه مشكلة خطيرة لا تواجه النظام السياسي الحاكم، بل المملكة ككيان حيث يفترض أن تكون العائلة المالكة رمز وحدتها. والرمزية لا تأتي بالتمثيل الجزئي، كما أن الوحدة لا تستمر بدون شعور يمثل رابطة حقيقية بين القيادة السياسية والجمهور. رغم مضي وقت طويل ثبت أن أمراء العائلة المالكة غير قادرين، أو غير راغبين ربما، في الخروج من الشرنقة المذهبية والمناطقية، بل ويزايدون أحياناً على معارضيهم المحليين بأنهم أكثر نجدية منهم، وأكثر حرصاً على المذهب الرسمي. قال وزير الدفاع الأمير سلطان لسكان القصيم عام 1997 أثناء زيارته لهم بأن المملكة تفخر بأن معظم مسؤوليها هم من القصيم!.
 
لهذا كلّه لم تؤت سياسة الصهر أُكلها. ونقصد بالصهر: تذويب منطقة أو جماعة وإفقادها خصائصها السياسية والثقافية في بوتقة جماعة غالبة ولصالح ثقافتها وتراثها. ولهذا لم يكن هناك من مفرّ سوى الإبتعاد عن سياسات الدمج والتي يقصد منها: دمج المناطق والجماعات، ثقافة وسياسة وتاريخاً واقتصاداً بما فيها المنطقة أو الجماعة الغالبة، لتبرز محلّها ثقافة عامّة جامعة ومصالح متداخلة ومساواة قائمة تسمو على المناطقية والفئوية. وأيضاً لذات السبب لم تثبت المنطقة الغالبة قدرة سوى في (الإلحاق السياسي) بسلطة الجماعة المنتصرة دون رضى حقيقي من المناطق والجماعات، ودون أن يعني ذلك الإلحاق صهرها وتذويب خصائصها. ومن هنا فإن التوحيد الذي أخذت شكله المملكة، هو التوحيد السياسي الفوقي الذي لم يأخذ شكلاً متعمّقاً عمودياً، بل مجرد توفير مظلّة سلطة سياسية واحدة. وأخيراً.. لهذا كانت الهوية الوطنية غائبة لأنها لم تكن تخدم مفاعيل الهيمنة المناطقية، ولهذا أيضاً سدّ باب الإصلاح السياسي ونشأت الروح الإنفصالية وتعزّزت وهي تبحث عن سند لها خارج الحدود.
 
 
 
 

التحديث وتأجيج مشاعر الإنفصال


 
 
المقصود بالتحديث هنا هو التغيير الإجتماعي الذي يكون الإقتصاد أحد أدواته الأساسية، والذي يفترض إحداث تغيير هيكلي في ثقافة ومفاهيم المجتمع ونظامه السياسي وشخصية أعضائه ورفاهيتهم وتطورهم الإقتصادي. ومع أنه صار معلوماً بالضرورة لدى علماء الإجتماع أن هزّات كبرى تتعرّض لها المجتمعات وهي تعبر بوابة التحديث، والناتجة في الأساس عن تغيير في المفاهيم والقيم الإجتماعية وفي الحالة السيكولوجية، فإن هناك مقاربات مختلفة فيما يتعلق بتأثيرات التحديث (أو التنمية الإقتصادية) على علاقات الجماعات في مجتمع متعدد.
 

هناك مقاربتان لهذا الموضوع:


 
الأولى تفترض أن التحديث يؤدي الى تقليص الهوّة بين الجماعات المختلفة المتصارعة أو المتنافسة ويضعف الروابط التقليدية (القبلية والمناطقية والدينية) ويهيء المناخ لقيام هوية وطنية وذلك لأسباب عديدة بينها: أن التحديث ينقل الصراع على الهوية الى تنافس بين الجماعات في الحقل الإقتصادي. كما أنه يشيع حالة من الرخاء الإقتصادي والسلم الإجتماعي فتصبح الجماعات أقلّ ميلاً الى الإختلاف والعنف، أي تضعف لديها النزعات الإنقسامية من خلال شعور بالخوف وليد يتكون لدى الأفراد ويفيد بأن رفاههم وأمنهم قد يتعرضان للخطر في حال استمرّ الصراع والإنقسام الداخلي. وتفترض هذه المقاربة أيضاً، أن يكون للمواصلات والإتصالات الناتجة من عملية التحديث دوراً في تقريب الأفراد المختلفين من بعضهم البعض، وبالتالي تعزّز حالة من التفاهم والفهم للآخر المختلف، وتقلّل من نسبّة التنميط والتعميم تجاه الآخر. ويضاف الى هذا فإن التحديث يصنع نخباً (وطنية) متعلّمة ويقلّص نسبة الأميّة بالشكل الذي يجعل هذه النخب بديلاً للنخب التقليلدية (القبلية والعشائرية والدينية والعرقية وغيرها) والتي تختزن العصبيات الإنشقاقية.
 
المقاربة الثانية حديثة وقد بدأت تسود أوساط علماء الإجتماع، وهي تفترض عكس ذلك تماماً. فالتحديث من وجهة النظر هذه يخلق حقلاً إضافياً للصراع بين الجماعات داخل الدولة، وهو الإشتباك في ميدان الإقتصاد، والتنافس على الخدمات والمواقع في أجهزة الدولة. والتحديث يأتي بنخب حديثة ولكن بعقول تقليدية قديمة هي أشدّ نزوعاً نحو الصراع وتسييسه ضد الآخر كما أنها أكثر عنفاً من جهة كونها أكثر قدرة على استخدام أدوات التحديث في الصراع الداخلي وفي ترميم الهوية الخاصة مقابل الهوية الوطنية وفي قيادة الحركات الإنفصالية عن جسد الدولة. ويرى أصحاب هذه المقاربة أن التحديث بمجمله في المجتمعات المنقسمة المتعددة يقدم أدوات جديدة لنشر المشاعر الإنفصالية عبر المطبوعات وأجهزة الإعلام واستخدام التكنولوجيا في الإتصال والمواصلات (الإنترنت، والهاتف المحمول بشكل خاص). وأخيراً، فإن التحديث غالباً ما يكون غير متوازن من جهة توزيع المنافع والخدمات بين فئات المجتمع وتقسيماته المناطقية وغيرها، سواء لأسباب لها علاقة بالحكومة أو برامجها أو لأسباب تتعلق بالجماعات نفسها وقدرتها على الإفادة من أجواء وفرص التحديث.
 
فيما يتعلق بالمملكة، يمكن للباحث أن يجادل، بأن التنمية التي مرّت بها نجحت في أمرٍ أساسيٍ وهو تعزيز قدرات الدولة وأجهزتها (الأمنية والعسكرية بشكل خاص) وكان هذا واحداً من أهدافها التحديث المركزية. أما بناء هوية وطنية وتخفيف الصراعات والفوارق الإجتماعية فلم يكن بين الأهداف المركزية لخطط التنمية، ولذلك فشلت في تحفيز الحسّ الوطني وفي خلق نواة ثقافية تقوم عليها الوحدة الوطنية. خاصة وأن عملية التحديث نفسها قد أُدمجت في إطار المفاهيم والرؤى التجزيئية ووفق الأيديولوجيا العصبوية التي قام بنيان الدولة على أساسها. بمعنى أن التنمية في المملكة أدّت الى بناء الدولة وليس الى بناء الأمّة، وعزّزت سيطرة الدولة وسطوتها بحيث فصلت بشكل غير مسبوق ـ بالنسبة لنظرائها في الدول الريعية ـ بين التحديث (التنمية الإقتصادية والإجتماعية) والحداثة (التنمية السياسية).
 
أما من جهة منافع التحديث، والمسألة هنا لا تتعلق بالإنتفاع من التحديث في إطاره العام، إذ لا شك أن الجميع ينتفع بصورة من الصور، إنما عمق المسألة يكمن في حجم المنفعة. ولا يقارن المختلفون عادة بين أوضاعهم الحالية والسابقة لعملية التحديث وما كسبوا منها، بقدر ما تتم المقارنة مع الآخر المنافس، حيث يتسابق الجميع للحصول على الأفضلية مسجلاً نقاطاً في مرمى الخصم، تماماً كما شهدناه في الماضي ونشهده اليوم واضحاً ومؤلماً في نفس الوقت.
 
وهكذا، فإن الفرضية القائلة بأن الثروة أرضت الجميع، وشجعت على الولاء للحكومة والدولة لا مصداقية كبيرة له.
 
غير أن عدم التوازن المرافق للتحديث من حيث حجم الإنتفاع لا تعود أسبابه الى عوامل مجتمعية لا علاقة للدولة بها بالضرورة، بل قد تساهم الحكومات في تعزيز الفوارق في توزيع الثروة والوظائف والخدمات عن عمد وسابق إصرار. الحكومة، كما هي في المملكة، قد تكون منحازة لفئة من الفئات أو جماعة من الجماعات أو منطقة من المناطق، فتقوم بتقليص الخدمة وحجب الوظائف عن جماعات لا تريدها، أو تريد تركيعها ومعاقبتها، قبيلة كانت أو جماعة مذهبية (الشيعة مثلاً). فكل الوظائف البيروقراطية العليا والوسيطة، المدنية والعسكرية والأمنية والدينية والإقتصادية والتعليمية لا يمكن للأخيرين الوصول اليها، لمجرد الشك في الولاء السياسي، وبذا يكون الإقصاء الحادّ من هذا النوع وسيلة (أمنيّة) احترازية أو استباقية، وعقاباً جماعياً حاداً لمجاميع سكانية غير قليلة. كذلك يعد تقليص الخدمات التعليمية والصحيّة وغيرها وسيلة أمنية ـ عقابية استباقية إضافية، ينتج عنها غليانٌ إجتماعي وتفاوت طبقي واضطراب أمني (كما حدث مراراً وتكراراً) وانقسامات حادّة تصل الى التهديد بالقتل بين شرائح إجتماعية مختلفة.
 
هناك مبررات للتفاوت في الإستفادة من مخرجات التحديث لا علاقة للدولة بها، مثل استعداد بعض الفئات الإجتماعية أكثر من غيرها للتناغم مع متطلبات التحديث والإستفادة منه، كأن تكون منطقة أو جماعة بعينها أكثر تأهيلاً في مجالي التعليم والإدارة أو أكثر ثراءً وتحضراً الأمر الذي يجعلها أكثر قدرة على خوض المنافسة والفوز فيها، ولكن ذلك قد يجعلها أيضاً عرضة للسخط والحسد وربما الخوف منها في حال كانت المنطقة الخاسرة في حلبة المنافسة أو الجماعة المتخلفة تتمتع بطموح ورغبة عاليين للحصول على حصّة أكبر من كعكة السلطة والثروة، ومن الفرص والمنافع المتاحة. وهنا تقوم بعض الدول بإيلاء عناية خاصة للمناطق المحرومة، وصرف المزيد من الأموال لتحسين أوضاعها حتى تقلص الفوارق بينها وبين نظيراتها المتقدمة.
 
صناعة النخب غير الوطنية: التحديث يصنع النخب، وقد كان معتقداً لزمن طويل فيما يتعلق بالعالم الثالث على نحو خاص، بأن النخب المحدّثة ستتغلب على النخب التقليدية من جهة، وستقود شعوبها بعيداً عن الإنتماءات الأثنية، ولكن هذه النخب، وُجدت على العكس من ذلك في مقدمة الصراع الأثني تقوده وتنظّر له. فالأحزاب الأثنية وجدت مبتغاها في تلك النخب المتعلمة، فانطلق العنف من المناطق المدنية، وانقسمت الجيوش ضمن خطوط التقسيمات المختلفة وقامت الإنقلاب وحقول القتل. وبذا يمكن الإستنتاج بأن المواجهات الأثنية إنما هي نتاج لتجذّر العداوات التاريخية الى الحد الذي لا تستطيع معه مفاعيل التحديث من إذابتها.
 
بالنسبة للمملكة.. ليست هناك نخبٌ سياسية وطنيّة (أو حسب التسمية: سعودية).. بل هي نخبٌ في كلياتها تقع ضمن التصنيفات المناطقية والمذهبية. أما النخبة السياسية فهي مناطقية نجديّة أُنتجت بفعل التوسّع النجدي بقيادة العائلة المالكة، بحيث تمّ القضاء على النخب في المناطق التي تمّ ضمّها إما بالقتل أو بالطرد أو بالإقامة الجبرية في الرياض، وجرى استبدالها منذ ذلك الحين وحتى اليوم بنخبة مناطقية غالبة تعتقد بأن لها الحق أن تحكم وتقود ليس على أساس ديمقراطي أو الكفاءة، بل على أساس الحق التاريخي ـ القبلي والديني ـ الذي صنعه انتصارها على نظيراتها الأخريات. وهذه النخبة، قامت وبعد السيطرة على مصادر الثروة بصناعة نخبها الحديثة ضمن إطار التواصل القديم، فتغيّرت الوجوه ولم تتغيّر السياسات الإحتكارية للسلطة وأدواتها.
 
التحديث في المملكة لم يصنع نخباً وطنيّة، فمناهج التعليم لم تكن ولم تزل ليس فقط قاصرة عن خلق نشء جديد يتسامى على الفواصل والإنقسامات، بل جاءت هذه المناهج لتزيد منها وتعمّقها. يدور النقاش دائماً حول دور المواد الدينية والتاريخية في زيادة الشروخ الإجتماعية، فهي قد تؤكد الهويّة الخاصة في نجد، ولكنها تعطي ذات النتيجة بالنسبة للآخر الذي تتعرّض له المناهج بالإنتقاص والتحقير والإستخفاف والتكفير أيضاً.. حيث يرتدّ الى جذوره بدل أن تقلعه المناهج منها.
 
إن الصراع في المملكة بين المناطق والهويات تقوده النخب وليس الأفراد العاديون، وهذا معلوم بالضرورة وله ما يماثله في بلدان عديدة تعاني من عدم الإنسجام الإجتماعي.. النخب هي التي تقود الحروب المذهبية والمناطقية والسياسية. منها نشأ الإحتكار السياسي وتعزّز، ومنها تنطلق دعوات تقسيم المملكة بصور مكشوفة ومبطّنة، وهي التي تتولى عملية بناء وتحصين الهوية الخاصة بالجماعة، وعلى يدها يقاد الجمهور يمختلف قطاعاته نحو الزوايا الحادّة. النخب في المملكة وبكل تصنيفاتها تستخدم ذات الأدوات القاتلة: إحياء التراث، واستدعاء تاريخ ما قبل قيام الدولة، والبحث في مقاطعه عن أمجاد غابرة، والتذكير برجالات القبيلة والمذهب والمنطقة وأدوارهم المشرقة، وتسييس العلاقات الخاصة بين أفراد الجماعة وتفعيلها اقتصاديا، واستخدام مؤسسات الدولة لخدمة الجماعة.
 
لم نرَ بين هذه النخب السياسية والدينية والثقافية من يشير الى عمق المشكلة الوطنيّة، أو ينظّر لحلّها، أو مجرد يلفت الأنظار لمخاطرها. لا أحد يرغب في اقتحام التابو فيخرج ما يدور في الكواليس من مواضيع ومشاريع تآمر سرية على وجود الدولة الى العلن، فالإنفصال والتفتيت خيار جدّي يساهم فيه المنتفع والمتضرّر على حدّ سواء، كلُّ بطريقته الخاصة.
 

مشكلة المملكة في رأسها. وبتحديد أكثر: مشكلتها في نخبتها السياسية.


 
النخب النجدية الحديثة: النخبة النجدية عشية قيام المملكة كانت تقليدية وتتكون من العائلة المالكة ورجال الدين وبعض شيوخ القبائل، وهذه صُنعت في بوتقة الحرب وميادين المعارك، وهي لا تزال تواصل دورها وتأثيرها بأكثر مما تفعله النخب الحديثة في حشد الشارع واستمرار المعارك القديمة التي كانت قبل قيام الدول. في حين أن النخب الحديثة التي أفرزها التعليم لم تخرج من شرنقتها المناطقية، ومن جهة ثانية أتاح التعليم الديني الجامعي (الوهابي) فرصاً كبيرة في تخريج أجيالٍ متعاقبة من النخب حديثة المظهر ولكنها قديمة الجوهر.
 
حاولت النخب النجدية الحديثة التي تلقت تعليمها سواء في الداخل وفي الغرب، إيجاد موطء قدم لها في ماكنة السياسة والبيروقراطية الحكومية، فهي لم تطمح الى إزاحة النخب التقليدية، لا العائلة المالكة ولا رجال المؤسسة الدينية، ومع أن طموحها كان قاصراً على مجرد المشاركة في صناعة القرار (الذي هو في النهاية نجدي) إلاّ أنها اصطدمت ولاتزال بمنافسة النخب الدينية القديمة. لم يكن الخلاف بين الحداثيين والتقليديين يدور حول المنهج بالضرورة، فالجميع ـ فيما يبدو ـ يحاول تمثيل الشارع بتراثه القديم الخصامي والإقصائي. فهناك قبول من النخب الحديثة بمبدأ الإحتكار المناطقي للسلطة السياسية والدينية وأدواتهما العسكرية والاقتصادية والإعلامية. والخلاف يمكن اعتباره داخلياً في الأساس ضمن الجماعة الواحدة، والصراع إنما جاء على قاعدة من يمثل المنطقة وحجم ذلك التمثيل.
 
ولذلك فإن الخطاب السياسي الداخلي بين الجماعة لم يختلف أبداً بين التقليديين والحداثيين: لا على مرجعية السلطة، ولا على طرق استخدامها، ولم تعترض النخب الحديثة بشكل عام على سياسة الإقصاء المتبعة تجاه الخارج غير النجدي، بل وُجدَ من يُنظّر لها بصورة أفضل من التقليديين. ولا ننس أن هذه النخب الحديثة هي نفسها التي تطبق في الغالب مخططات الإقصاء وتعزز نوازع الهيمنة، ولكنها تخرجها بصورة مختلفة، لا على أساس الإختلاف المذهبي أو المناطقي بالضرورة، وإن كانت تفعل ذلك أحياناً، ولكن على أساس أنها لا تملك القوة لمواجهة التقليديين.
 
النخبة النجدية بكافة مشاربها، تبدو غير مهتمة بالمذهب إلا من جهة أنه يوفر وسيلة إضافية توحيدية للأفراد النجديين، وأنه يقدم مبرراً جيّداً لممارسة سياسة الإقصاء. بعض النخب الحديثة ترى ضرورة تقديم بعض التنازلات التي لا تمسّ صميم السلطة وامتيازاتها.. المهم أن لا يتم الإقتراب من موضوع الحقوق السياسية والإقتصادية، أي الى موضوع تحصيص الدولة عبر الديمقراطية أو غيرها، وأن لا تتحوّل الدعاوى المناطقية والمذهبية المساندة لها إلى أداة تهديد لتلك الإمتيازات.
 
النخبة الحجازية: أما النخب غير النجدية، فهي أيضاً جرت تنشأتها طائفية مناطقية، جاءت وجاءت على الأرجح كردّ فعل على مناهج التربية والتعليم شديدة الإنحياز والهجوم على الهوية الخاصة، ورداً على احتكار السلطة.
 
حاول ابن سعود فور سيطرته على الحجاز القيام بخطوة وسطية مع النخب الحجازية لاستيعابها ضمن قِدْر الصهر النجدي، فأعطوا نوعاً من الإستقلال النظري ضمن ما سمي مملكة الحجاز، بعاصمتها مكة المكرمة، ووضع للدولة الحجازية دستوراً لم يعلن عن إلغائه حتى اليوم، وأُسس مجلس شورى كان حجازياً كاملاً ليدير شؤون الحجاز ثم احتل النجديون نصفه، ثم تحول إلى مجلس وكلاء ثم أُلغي بدون إعلان. كانت هناك حاجة لإشعار الحجازيين بأنهم مستقلون عن السيطرة النجدية، الا من سيطرة ابن سعود، وكأن الأخير اراد القول بأن نجد شيء والعائلة المالكة شيء آخر. هذا (التكتيك) بالتحديد أزعج الإخوان ومشايخ نجد الذين أرادوا انتصاراً يسحق الخصم ويذيبه رغماً عنه بالعنف. وكانوا قد مهدوا ذلك بالمذابح في تربة والطائف، وبالفتاوى والكتب التي تكفر الحجازيين قبل أن يدخل الوهابيون إلى مكة ويحتلون جدة والمدينة.
 
كان ابن سعود أكثر حكمة في حفظ ملك عائلته وديمومة سيطرة النجديين منطقة ومذهباً. كان يدرك بأن الوضع الإسلامي والدولي لا يساعد على امتصاص الحجاز، الذي كان مصيره غير مضمون بيد آل سعود، وكان مقدراً للصهر القسري أن ينفجر في وجه المحتلين، في وقت كانت فيه المعارضة الحجازية ممثلة في أعيان الحجاز الذين أسسوا لهم حزباً (الحزب الوطني الحجازي) مدعوماً من الهاشميين في الأردن يغرق بنشراته التي تصدر من القاهرة وحضرموت مدن الحجاز، ويطوف بالقوى الإقليمية العربية محرّضاً على سلطة الوهابيين.
 
عمل ابن سعود على امتصاص هذه النخبة الحجازية، وعلى إعادة أفرادها من المنفى الذي اضطروا اليه فور سيطرة الوهابيين على الأماكن المقدسة، ومنحهم بعض المناصب الهامشية (ولو من منظور الحاجة إلى كفاءات متعلمة كانت غير متوفرة في نجد) كأن يكونوا سفراء وأعضاء في مجلس شورى الحجاز ومسؤولي إدارات مالية وحكومية أخرى. وكان هؤلاء العنصر الأساس في تشكيل بنيان الدولة وقوننتها من خلال وضع أنظمة عصرية أو نصف عصرية، لاتزال تلك القوانين والأنظمة حاكمة في مجملها حتى اليوم، القليل منها أصابه التعديل، أو حتى التغيير من أساسه.
 
خضوعاً لبطش الوهابية السياسية ، وتجاوباً مع الإغراء النجدي، وافقت قيادات الحجاز التي كرهت الأشراف لا لشيء غير أنهم لم يستطيعوا توفير الحماية لشعب الحجاز، وافقت على مجاراة الوهابية السياسية بالصمت والهدوء. وحاولوا تطويع أنفسهم أكثر وتحبيب ذواتهم إلى العائلة المالكة، وهو أمرٌ لم يعرفه ولم يعهده النجديون من قبل، حتى أن الأخيرين كانوا يعتقدون (صادقين) بأن احتلال الحجاز أفسد زعامة نجد (العائلة المالكة) وربما زعامتها الدينية ونخبها. ايضاً كانت هناك غيرة لدى النخب النجدية من التودّد الحجازي جذباً للمناصب، فقامت النخبة النجدية باتقان لعبة الحجازيين، ربما شعوراً منهم بأن العائلة المالكة يمكن أن تحتوى من قبل منافسيهم أو أنه صار لديها بدائل حجازية، وهو شعور غير دقيق.
 
كان ابن سعود يدرك أن الحجاز وربما غيره يمكن أن يكون تابعاً لنجد سياسة ضمن شروط، أما الثقافة والدين فمستحيل، بل أن محاولات السيطرة والفرض الدينيين قد تؤديان إلى تفتيت السيطرة السياسية.
 
إن السيطرة السياسية لنجد على الحجاز كانت ولاتزال وستبقى في المستقبل مرهونة بحجم المنفعة المتأتية من الخضوع السياسي، وحين لا  يجد الحجازيون منفعة ذات معنى من بقائهم تحت السيطرة الوهابية السياسية، فإنهم سيبوحون برغبتهم في الإنفصال علناً، وهو ما يفعلونه اليوم بوسائل تقترب الى العلنية، وربما تعلن في المستقبل القريب.
 
ربما كان التفات آل سعود والنخب النجدية إلى هذه النقطة: الحاجة الحجازية إلى ثمن للبقاء تحت السيطرة النجدية، أو بتعبير بعض النجديين (العظم!) قاصراً في الماضي كما في الحاضر.. فالتنافس بين الكيانين البشريين أعمى القيادة النجدية وأغراها بتجريد الحجازيين مما لديهم، وكان يجب ان توضع نقاط حمراء حتى تبعد الخطر. ربما شعرت العائلة المالكة أن الخضوع النفعي الحجازي والذي استمر عقوداً طويلة ليس فقط لم يلغ الهوية الحجازية، بل انه لم يقنع الحجازيين أو يشعرهم بأن الزعامة النجدية، زعامة العائلة المالكة، صارت جزءً منهم ومن الواقع الذي يجب أن يتعاطوا معه بدون حساسية. شعور العائلة المالكة بأن علاقة المنفعة غير الكافية وغير مضمونة الإستمرار جعلها تميل بشدّة إلى محيطها وبيئتها النجدية وتفضيلها وتقويتها، ولعل ذلك استهدف إخضاع الزعامة الحجازية أو تهديدها أو تقليم أظافرها.
 
لكن النتائج قد تكون عكسية تماماً.
 
إن إقصاء النخب غير النجدية عامّة، أو عدم القدرة على احتوائها ضن جهاز الدولة والمؤسسة البيروقراطية مؤشر خطير لانفصالها. المشكلة في موضوع التحديث تتمحور في السباق بين التحديث والإستيعاب لمنتجاته (النخبوية). فمعدل التحديث وسرعته يجب أن يرافقهما استيعاب للنخب المنتجة وطموحاتها، وإلاّ فإن وجود أشخاص لم يتم صهرهم أو استيعابهم يعد المؤشر الخام الأول لوجود أزمة بين الجماعات التي يتشكل منها كيان الدولة. إن كثيراً من النخب التي لم يتم احتواؤها في جهاز السلطة بسبب غياب المنافسة الشريفة، تطرق بوابة الإختلاف وتؤكد عليه بين أفراد الجماعة وتغذّيه إما بقصد أو بدون، ولكن ذلك في المحصلة يؤدي الى تصاعد الشعور بالمظلومية بين الطبقات الدنيا، وبالنسبة للبعض فإنه مقصود فالعودة الى المواقع الأثنية وتفعيلها سياسياً إحدى الوسائل لتحطيم أسوار احتكار السلطة والمشاركة فيها، أو تدمير السلطة نفسها عبر الإنشقاق والتقسيم.
 
ما يفاقم الأزمة في الوقت الحالي، هو أن جهاز الدولة وهو المعوّل عليه في احتواء وامتصاص النخب المتعلمة، أضحى عاجزاً عن فعل ذلك، إما بسبب تشبّعه بالعناصر، أو بسبب عدم قدرة الدولة الإقتصادية على استحداث وظائف ومواقع جديدة، أو بسبب غياب المنافسة الحرّة في شغر أجهزة الدولة منذ أن تأسست واعتمادها على المحسوبيات والقرابيات والإحتكار الفئوي.
 
ضمن هذا الإطار يمكن أن يشار الى أن حدّة الصراع والمنافسة (خاصة بين النجديين والحجازيين) على المواقع والوظائف العليا والتي تتضمن بعداً إجتماعياً أثنياً، فكل مجموعة تحاول تحصين مواقعها بجلب وتشجيع آخرين إليها لاقتطاع أكبر حصة ممكنة من ثمار التحديث سواء كان لأفراد المجموعة أو للمجموعة نفسها، أو لحماية تلك المواقع من الإستلاب من قبل المجموعة الأخرى.. وهذا ما جعل التحديث في المملكة على الأقل بين (النجديين والحجازيين) محفّزاً للصراع والتنافس والتقاطع وتصاعد العداء، وهو الأمر نفسه الذي يجعل التأكيد على الهوية الخاصة أمراً مهماً في مثل هذه المعارك.
 
وزيادة على ذلك، فإن هناك عاملاً سياسياً تمثيلياً يلعب دوراً في غاية الأهمية، فالأفراد في المناصب الرفيعة حين يفشلون في كسب أرباح لمجتمعهم الخاص، قبيلة أو منطقة أو مدينة، كمنافع الخدمات مثلاً والتوظيف والحصول على الأراضي وتحسين الوضع العام مجملاً.. حين يفشل هؤلاء حتى وإن لم يخسروا مواقعهم الوظيفية فإنهم يخسرون دعم وولاء مجتمعاتهم وتمثيلهم الرمزي لها، وهو أمرٌ لا تغامر الأكثرية بفعله، خاصة وأن أفراد الجماعة الخاصة، تتزايد تطلعاتهم وطموحاتهم لمزيد من القوة ومزيد من المكاسب ومزيد من المال في فترة تصاعد مشاريع التحديث (كما حدث أثناء ما كان يسمى بالطفرة النفطية). ولذا خلص بعض الباحثين الى نتيجة أن المطالبات المتشابهة من قبل الجماعات المختلفة هي التي تجعل من عملية التحديث مؤثرة في تصعيد الأزمات الأثنية وما يرافقها من تعزيز للهوية الخاصة.
 
 
 
إن التقاتل الشديد بين النخب الحجازية والنجدية عجّل بانحياز العائلة المالكة والدولة نفسها الى خندقها الفئوي، خاصة في عهد الملك فهد الذي دفع بالحجازيين للتقوقع في مناطقهم وجرّدهم بشكل منظّم من قواهم الحيّة في الجهاز البيروقراطي والعسكري والأمني للدولة. وهذه السياسة كانت ضربة قاصمة للتعايش بين نجد والحجاز، وأحد المسامير الأخيرة التي تدقّ نعش الوحدة السياسية.
 
المسعى النخبوي النجدي لم يكن يدور بخلده موضوع قهر أو ما أشبه. الذي كان يجري حرباً صامتةً بين أمتين ومذهبين ومنطقتين بل ومنطقين ومصالح متضاربة.
 
النخب النجدية تعتقد أن آل سعود أخطأوا حين أفسحوا الطريق للحجازيين ليأخذوا المواقع بعد أن احتلت القوات النجدية وبقوة السلاح الحجاز، الأمر الذي أدى إلى صعوبة إزاحتهم.
 
لا يهم النخبة النجدية موضوع الدمج والصهر والتوحيد.. إنما الإلحاق السياسي للحجاز وإن على مضض، وهم يخشون الحجازيين من أن يدفعوا نحو الإنفصال.. لكن هذه المواقف لم تترجم عملياً فيقدمون على إشراك الآخرين في المنافع لإسكاتهم. هم لم يفعلوا ذلك في فترة سابقة إلا تحت ضغط التهديد بالإنفصال وارتفاع حمّى الدعوة للثقافة والجذور الحجازية، وحتى هذه ما عادت اليوم تؤثر على مسلكهم وكأنهم في منحدر لا يستطيعون التراجع عنه.
 
سيبقى الطرفان غرماء ومتنافسين على المواقع.. النجديون يسدّون ضعفهم بدعم العائلة المالكة وموقفها غير المحايدة كالعادة، والحجازيون يلوحون بالإنفصال ويندفعون باتجاه (الحجزنة أو التحجيز!) يهددون به ويلجأون اليه ويحتجون عبره من المنافسة غير الشريفة.
 
النخب النجدية تريد الحجازيين منتفعين دونيين من السلطة لا مشاركين حقيقيين فيها، مقابل ثمن كبير هو: إبقاؤهم ملحقين ضمن الدولة النجدية والحكم النجدي.
 
النخبة الشيعية: منذ استيلاء السعوديين على الأحساء والقطيف، جرى إقصاء النخب الشيعية التقليدية (رجال الدين، وعُمَدْ المدن والقرى، والتجار) من لعب دور في الدولة الجديدة. لقد كان إقصاؤها كلياً تقريباً وفي كل الميادين الإقتصادية والإجتماعية والثقافية. والإقصاء يوفّر أفضل الأجواء لنمو حالات الإنشقاق عن الدولة ونظام الحكم فيها، سواء عبر الدعوة لإسقاطه وتغييره أو عبر الإنفصال عن جسد الدولة وتشكيل دولة خاصة بمواطني الشرق. إن الغلبة اليوم كما في الأمس بالنسبة للعائلة المالكة والنخب الدينية والحديثة المسيطرة يدفع بالتمادي في ممارسة سياسة الإقصاء هذه.
 
كانت إحدى جوانب مشكلة الشيعة في المملكة أنهم لا يمثلون نسبة ذات اعتبار في نخبة البلاد العلمية والثقافية، وبديهي أن أي تجمّع محلي لا يمكن أن يتبوّأ مكانة أو ينال حقه بدون بذل جهد حقيقي على صعيد (نخبة المجتمع) من سياسيين ورجال دين ، وكتاب وصحافيين، وأساتذة الجامعات ومفاتيح المجتمع الأخرى من تجار وأعيان وأضرابهم.
 
المجتمع في المملكة، شأنه شأن أي مجتمع آخر .. تحكمه وتوجه أفكاره وتؤثر فيه آراء (النخبة). والأزمة الطائفية لم تأت بها وتنفخ فيها سوى النخبة كما ذكرنا، واستطاع الشيعة بفعل تطور المجتمع السعودي ككل، وشياع التعليم أن يكونوا جزءاً من تلك النخبة، جزءاً صغيراً محاصراً بالقيود.
 
كان هناك اهتمام من قبل النخبة الغالبة إبقاء المواطنين الشيعة يعملون في الأعمال التافهة أو الوسيطة فما دون، بحيث لا يصل أحدٌ منهم الى منصب ذي قيمة. وهذا بقدر ما كان يعبّر عن خشية تلك النخبة من طموح نظيرتها الشيعية في المشاركة الجادّة في الحياة العامة للبلاد ، فإنه أعاق بشكل كبير عملية دمج المجتمع السعودي نفسه، وجعل الفواصل تتعمق أكثر.
 
ولعل من أسباب زيادة التهور الطائفي الرسمي، هو قلّة الأفراد الشيعة الذين سُمح لهم باجتياز الحواجز بما يتواءم مع ملكاتهم وقدراتهم وكفاءاتهم، فترك الحبل على الغارب لكل موالٍ أو طائفي، وهؤلاء في أكثر الأحيان يجرون السياسة التي يريدون ، وقد تكون متناقضة في بعض الأحيان مع السياسة العامة التي يرسمها رجال الحكم انفسهم. والمعلوم أنه في بلد مثل المملكة، أن من لا يوجد له تمثيل في الجهاز البيروقراطي وغيره من الأجهزة فإنه لن يحصل على حقه، بل لن يحصل على وظيفة في منافسة صادقة ! .
 
تمّت إعاقة النمو الطبيعي لمنع تكوّن أو بروز نخبة من الكفاءات الشيعية. لكن من الخطأ جداً الإعتقاد أن السلطة تتحمل وحدها المسؤولية. نعم، لقد وضعت سقفاً من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ اختراقه، سقفاً حديدياً واضحاً في مجال التوظيف بالجهاز الإداري الحكومي .. لكن كان هناك متسع من الحركة لبروز الكفاءات لمن لديه همّة وحركة وطموح ليكون نخبوياً من خارج الجهاز الحكومي ومستقلاً عن فكر السلطة.
 
أعاق تأخير بروز نخبة شيعية معاصرة عمل الحكومة أيضاً، لأن وجود تلك النخبة في مواقع رسمية كان سيساعدها على امتصاص المشاكل الحقيقية، ويسهّل من عملية الدمج بين المجتمعات المتنافرة، ولكن يبدو أن من يحسبوا على النخبة الشيعية أصبحوا  أنفسهم ضحايا النظام في أكثر الأحيان، لا يشعرون تجاهه بغير الأسى والألم، ولا يثير فيهم الحماس للدفاع عنه ومساعدته، إن كان رجاله يشعرون بالحاجة الى المساعدة .
 
أما موقف السلطة من النخبة الشيعية، تقليدية أو حديثة، فهو الإستمرار في سياسة العزل. ولأن الضغط الحكومي ـ السلفي اتخذ طابعاً مذهبياً، فإن النخب الشيعية التقليدية (رجال الدين) حافظوا على دورهم الطليعي، ولأن علاقة الحكومة بهم شديدة السوء، فمن المتوقع أن تسود حالة العداء للنظام السياسي وتتنامى الرغبة في التخلص منه بأيّ ثمن. وحتى النخب المتعلمة الحديثة، فإنها لم تستطع، والسلطة لم تساعدها، في إيجاد موطء قدم فاعل باتجاه قيادة السكان في المنطقة الشرقية باتجاه آخر. وقد لعبت سياسة التهميش للنخب الحديثة في ما يمكن تسميته بفرض العزلة القسرية عليها وتعطيل فاعليتها لصالح النخب القديمة، فارتدت كارهة للنظام وأدواتها، وبدأت باتجاه تعزيز أقدامها عن طريق العودة الى جذورها المناطقية والمذهبية.
 
السلطة الحاكمة قرّرت منذ البدء أن الشيعة في الأصل غير منافسين على حكم، وليس لهم القدرة السياسية والعسكرية على المواجهة مهما كان طمعهم في الإستقلال بأنفسهم عالياً، ولذا بدا من السهل إقصاؤهم كلياً، وهناك إجماع نجدي على ذلك سيستمر على الأرجح في المستقبل بحجة أو بأخرى، إما بالقول إنهم مختلفون مذهباً، أو لأنهم معارضون دائبون للسلطة السياسية.. وفي هذا الكثير من المبالغة.
 
أما المذهب فلم يكن يعني شيئاً للسلطة الحاكمة، إلا بقدر ما يتشابك مع عناصر نجدية خاصة، كأن تضغط النخبة الوهابية المتطرفة على العائلة المالكة لتحقيق انتصار مذهبي لم يتم رغم توالي السنين. يعضدنا لتبنّي هذا الرأي ما يحدث على الدوام من استجابة السلطة السياسية للقوى السلفية المتطرفة والمتجددة دائماً، فالتنازل المذهبي في المدى المنظور كان بالنسبة للسلطة الحاكمة أخفّ الأضرار، وإن جاء على حساب وحدة الدولة ومستقبلها.
 

هل تريد السلطة الحاكمة اليوم تغيير عقائد مواطنيها الشيعة؟


 
ما يهمّ السلطة الحاكمة في الوقت الحاضر هو إلحاق الشيعة ومناطقهم بالرضا أو بالقهر، والأمراء دائماً يخوفون أعيان الشيعة بأنهم (أي الأمراء) يمتلكون القوة لتدمير مدن الشيعة على رؤوسهم، وهم يظنّون بأن القوة ما تزال بيدهم وأن زمام المبادرة تبعاً لذلك بيدهم، الأمر الذي يجعلهم في أمان من أي تطوّر سيء في المستقبل يأتي من قبل الشيعة، مهما بلغ وضعهم من سوء وإزراء.
 
21-08-2002
 

copy_r