gulfissueslogo
د.سعيد الشهابي
الترقب سيد الموقف في عام غامض وعالم أغمض
د.سعيد الشهابي

تباينت التوقعات حول ما سيحدث هذا العام، اهو سنة الحرب؟ اهو عام الثورة المضادة؟ اهو مرحلة اعادة صياغة التحالفات الدولية وعودة الحرب البادرة بحلة جديدة؟ ليس هناك نقص في التخرصات والتنبؤات حول ما سيحدث خلال الشهور المقبلة في ظل حالة الاحتقان المهيمنة على الاوضاع الاقليمية ليس في الشرق الاوسط فحسب بل حتى في اوروبا التي ما تزال تئن تحت وطأة الديون والكساد، وامريكا التي ليست اوفر حظا سواء على الصعيد الاقتصادي ام الاقتصادي ام الاستراتيجي. ويكفي انها ورطت نفسها بمشروع منظومة الدفاع الصاروخي المزمع اقامتها في بولندا، بعد ان استيقظت روسيا فجأة على واقع يهدد ليس مصالحها فحسب بل امنها كذلك. كما ان الغليان في العلاقات الاقليمية والدولية اصبحت تنذر بحدوث فراغ على مستوى قيادة العالم بعد فشل الولايات المتحدة الامريكية في توفير تلك القيادة ومع ضعف اداء الامم المتحدة، وعودة ظاهرة الاستقطاب في المنظمة الدولي.
الذين يروجون للحرب في الشرق الاوسط، خصوصا مع تصاعد حالة الاستقطاب غير المسبوقة منذ الحرب العراقية الايرانية (وقبلها ظروف الحرب الباردة في منتصف الخمسينات التي ادت للعدوان الثلاثي على مصر، ثم تصاعدها في الستينات قبل حرب حزيران وبعدها)، ينطلقون على اساسين: اولهما ان اصرار ايران على الاستمرار في مشروع التخصيب النووي بعيدا عما تريده الولايات المتحدة وبريطانيا، سوف يؤدي الى ضربة امريكية اسرائيلية لايران، خصوصا مع التحريض الاسرائيلي المتواصل لجهة الحرب. ثانيهما: ان الوضع السوري يمثل ازمة اقليمية ودولية لن تتم السيطرة عليها الا بتدخل عسكري. ويذهب اصحاب هذه النظرة الى الافتراض بان الحرب سوف تخدم اهدافا اربعة: اولها اسقاط النظام السوري واقامة نظام صديق للغرب يوقع في النهاية على اتفاق سلام مع 'اسرائيل'، ثانيها: ان هذا التطور، اذا ما حدث، فسوف يضعف المشروع الاسلامي الذي انطلق من ايران الثورة وتواصل عبر الحركات الاسلامية وأفشل مشروع 'السلام' الذي تبنته امريكا في السبعينات وكانت ذروته توقيع اتفاقات كامب ديفيد. ثالثها: ان الحرب سوف تضعف ايران وتقطع صلاتها مع قضية فلسطين بقطع طرق الامداد التي كانت متوفرة عبر سوريا للمجموعات المقاومة للكيان الاسرائيلي، خصوصا حزب الله وحماس والجهاد الاسلامي. وبذلك يتلاشى وهج الثورة ومعها المشروع الاسلامي عامة. رابعها: استعادة الغرب، وبالتحديد الولايات المتحدة النفوذ السياسي والعسكري في منطقة بقيت متوترة طوال ستين عاما، مع انها تحتوي اكبر احتياطي نفطي في العالم. ويمكن القول ان الكيان الاسرائيلي يتصدر الدعوة الى الحرب، مع الاعتراف بوجود اصوات داخله ضد الحرب لاسباب استراتيجية واعتبارات امنية اسرائيلية بحتة، خصوصا في غياب مؤشرات الانتصار على قوى المقاومة. ويعمق حالة التشويش ازاء امكان حدوث الحرب او عدمه، التصريحات والمواقف الغربية من جهة والاسرائيلية من جهة اخرى، والايرانية ثالثة. ومع اعلان ايران عن نجاحها في انتاج يورانيوم مخضب بنسبة عالية اصبح هناك ما يشبه الاقتناع بان اي اجراء لن يوقف المشروع النووي الايراني. ومن هنا يدعو رافضو الحرب للقبول بواقع ينطوي على امتلاك ايران القدرة التصنيعية لليورانيوم المخصب بنسبة عالية (وهذا يعني قدرتها على صناعة السلاح النووي اذا ارادت)، وتقوية العلاقات معها لثنيها عن المضي في الشق العسكري من المشروع النووي. وعلى مدى عشرة اعوام من التوتر في العلاقات والتهديدات المتواصلة لايران وفرض العقوبات الاقتصادية المتواصلة عليها، اصبح واضحا ان حصار ذلك البلد يؤدي الى نتائج عكسية فيجعله اكثر اعتمادا على الذات، وأقدر على التصنيع والاكتفاء الذاتي. ويشير اصحاب هذا الرأي الى حقيقة مرة في نظر الغربيين مفادها ان الضغوط الغربية انتجت عكس اهدافها، وجعلت ايران اكثر تعنتا واصرارا على مشروعها بعد ان ثبت لها ان التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ووقف التخصيب في الفترة الاخيرة من رئاسة السيد محمد خاتمي، والسماح بزيارات متكررة لفرق التفتيش الدولية، كل ذلك لم يقابل بتعاون غربي، بل بمواقف اكثر تشددا واصرارا على مواجهة المشروع النووي الايراني يقابله موقف معاكس تماما ازاء المشروع النووي الاسرائيلي. هذه السياسة دفعت ايران للاعتماد على النفس والتشبث بما تعتبره حقا مشروعا لامتلاك التكنولوجيا النوورية بما يتيح لها ادارة دورة نووية كاملة من التصنيع. احتمالات الحرب اذن متأرجحة، للاسباب المذكورة ولحقيقة اخرى بان نتائجها غير مضمونة سواء للولايات المتحدة ام الكيان الاسرائيلي.
المسألة الاخرى التي تزيد الوضع الدولي تعقيدا ملامح عودة الحرب الباردة للعلاقات بين الدول الكبرى. هذه المرة لم تعد الصين بمعزل عن توازن القوى. ويبدو الوضع مهيأ لدخول الصين على خط التوازنات لاسباب عديدة. اولها ان الصين خرجت من العزلة التي كانت تعيشها في فترة الحرب الباردة، واصبح حضورها على المسرح الدولي يتوسع. وثانيها دخول الصين كقوة عملاقة للاقتصاد العالمي على حساب الدول الرأسمالية التي تعاني من تراجع معدلات نمو اقتصاداتها من جهة وتنامي عجوزات موازناتها وتراكم ديونها من جهة اخرى. ففي الوقت الذي كان الغربيون فيه يخوضون الحروب في شتى اصقاع العالم وينفقون نسبا كبيرة من عائداتهم على بناء القوة العسكرية العتيدة كان الصينيون يركزون على التقدم التكنولوجي. وفي غضون عقدين استطاعوا غزو الاسواق العالمية بما فيها الاسواق الغربية. ثالثها ان الصين تشعر انها اصبحت مستهدفة ضمن الاستراتيجية العسكرية الامريكية الجديدة، التي تقضي بنقل ثقلها العسكري الى المحيطين الهندي والهادىء تحسبا لتوسع صيني يؤثر على مصالحها. فالصين انتقلت من وضع كانت مدينة خلاله (في الثمانينات) الى دولة تتمتع بفائض تجاري كبير. هذا في الوقت الذي كانت امريكا تخوض فيه الحروب في العراق وافغانستان بالاضافة لما اسمته 'الحرب على الارهاب'. وغالبا ما كانت الصراعات بين الدول منطلقة من التنافس على الاسواق ومصادر الطاقة والمعادن. وتشعر امريكا بالتلاشي التدريجي لنفوذها السياسي والاقتصادي الذي يتضح من خلال تعمق حالة المقاومة الطبيعية في نفوس الشعوب العربية وغيرها للتمدد العسكري الامريكي.
ولا تقل العلاقة مع روسيا تهديدا أقل لحالة التوازن الاستراتيجي. بل ان واشنطن بالغت في استهداف المصالح الروسية التي كانت لديها خلال الحرب الباردة، وأسست استراتيجياتها على فرضية غياب روسيا الكامل عن المسرح السياسي الدولي. وأدركت موسكو في السنوات الاخيرة خطأها بالتخلي عن مواقع نفوذها في العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وهرولة واشنطن لاحتلال مواقعها، سواء في دول اوروبا الشرقية ام في الدول العربية ام امريكا اللاتيتنية. ولا شك ان صعود اليسار في الساحة الخلفية لامريكا خفف من هذا القلق ولكن ادركت روسيا ضرورة استعادة بعض مواقع نفوذها ومنع التمدد الامريكي على حسابها. وربما كانت حرب العراق قبل عشرة اعوام نقطة التحول في التفكير الاستراتيجي الروسي. واعقب ذلك قرار الرئيس جورج بوش اقامة منظومة دفاع صاروخية في بولندا، الامر الذي اعتبرته روسيا تهديدا لامنها القومي. وبرغم محاولات واشنطن اقناع الروس بان تلك المنظومة موجهة لايران وصواريخها البالستية التي اصبح بعضها يصل مداه الى الاراضي الامريكية، فقد اعتبرتها واشنطن موجهة لها، لان من غير المنطقي اقامة هذه المنظومة بعنوان التصدي للسلاح النووي الايراني الذي ما يزال وجوده محصورا في اذهان الغربيين وليس له وجود. يضاف الى ذلك ان روسيا اصبحت شريكة اقتصادية مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، وما تزال تتعاون معها في بناء محطة بوشهر النووية، وتصر على انها ليست موجهة لصناعة قنبلة نووية.
ويمكن القول ان الوضع السوري وفر لكل من الصين وروسيا فرصة لاثبات الذات. فمع ان الولايات المتحدة اعتادت استعمال حق النقض مرارا كثيرة تجاوزت الستين مرة، الا انها شعرت بالامتعاض الشديد عندما استعملت روسيا والصين معا حق الفيتو لمنع مرور قرار دولي عن مجلس الامن الدولي يدين سوريا ويمهد لتدخل عسكري من حلف الناتو على غرار ما حدث في ليبيا، وقبلها العراق. فتصدى الصينيون والروس ومنعوا تمرير القرار.
ماذا يعني ذلك؟ برغم علاقات الولايات المتحدة الوثيقة مع انظمة الاستبداد العربية، فهناك شعور يتعمق بضرورة الحفاظ على مسافة بين انظمة الثورة الجديدة وواشنطن. ومن المتوقع ان يكون لدخول روسيا والصين بهذا الشكل القوى انعكاسات على مجمل اوضاع الشرق الاوسط. وبرغم عدم جدوى الاعتماد الكامل على روسيا كحليف استراتيجي، الا ان غيابها شبه الكامل في العقدين الاخيرين عن المنطقة بسبب انشغالها بشؤونها الداخلية بعد سقوط المنظومة الشيوعية، ساهم في اضعاف الموقف العربي في قضايا عديدة اهمها الصراع مع العدو الاسرائيلي، وبقيت الولايات المتحدة اللاعب الدولي بلا منافس.
فجاءت اتفاقات اوسلو ومؤتمر مدريد لتجميد الحراك السياسي ومشاريع التحرير، وشعرت 'اسرائيل' انها تعيش ربيعها، فاستهدفت رموز المقاومة الفلسطينية بالاغتيال البشع، وكادت تقضي على كافة اشكال المقاومة. ومن المؤكد ان عودة روسيا للمنطقة، برغم سلبيات ذلك على الثورة السورية، سوف يعيد شيئا من التوازن، ويمنع الهيمنة الغربية خصوصا الامريكية على الوضع السياسي والتوازن الاستراتيجي فيها. ويستبعد ان توافق روسيا على اي مشروع عسكري امريكي في الشرق الاوسط في المستقبل المنظور، برغم محاولات السعودية وقطر شراء السياسة الروسية بالمال.
وعلى الجانب السلبي المتوقع حدوثه العام الحالي ان قوى الثورة المضادة سوف تزداد نشاطا بهدف اجهاض الثورات الشعبية التي انطلقت في اطار 'الربيع العربي'. فاذا كانت السنة الماضية 'عام الربيع العربي' بجدارة، بسبب حالة المفاجأة والمباغتة التي تميزت بها الثورات، فقد استطاعت قوى الثورة المضادة استعادة توازنها والتدخل بشراسة للتصدي لمحاولات التغيير السياسي. وحتى البلدان التي سقط زعماؤها ما تزال تواجه مخاطر الاجهاض، سواء باثارة التوترات الامنية او الاجتماعية والدينية والمذهبية. وبعضها يواجه التجويع، مثل تونس ومصر. وقال المصريون انهم قد يراجعون اتفاقات كامب ديفيد اذا خفضت الولايات المتحدة معوناتها المالية لمصر في ضوء التحقيق في نشاطات عشرات المصريين الذين يتلقون الدعم من منظمات حقوقية وسياسية امريكية. الثورة المضادة انطلقت بقوة وبشكل كاسح لمنع نجاح الثورات، واستعملت اقذر الاساليب لضمان وأد الثورات. فلا يكفي كتابة دساتير جديدة او اجراء انتخابات وتشكيل مجالس نيابية اذا بقيت التجربة مهددة من الداخل اما بسبب الجوع او الحصار او التوتر خصوصا اذا كان وفق خطوط دينية او مذهبية. ويمكن القول ان من ابشع وسائل اجهاض الثورات التدخل العسكري الذي قامت به السعودية للبحرين. وعندما فشل الاحتلال العسكري الذي لا يختلف كثيرا عن اجتياح قوات صدام حسين للكويت، تطرح الآن مقولة 'الاتحاد' بين البحرين والسعودية، بقرار من زعماء البلدين وليس بتفويض من شعبيهما.
هذه الاساليب في استهداف الثورات من شأنها خلق اجواء جديدة تمثل خطرا ليس على الثورات فحسب، بل على وحدة الامة وقدرتها على التقاط انفاسها للتصدي للقضايا الكبرى الاكثر تعقيدا، خصوصا قضية فلسطين. ويمكن الربط التاريخي بين غياب الحريات بسبب الاستبداد والديكتاتورية من جهة واحتلال فلسطين من جهة اخرى. فالشعوب المستعبدة لا تستطيع النهوض باعباء التحرر والدفاع عن الاوطان، بل تتراجع امكاناتها حتى تتلاشى. وما اكثر الذين يتصدون علنا للدفاع عن انظمة القهر والاستعباد والاستبداد، في مقابل ملء البطن بالدولارات النفطية.
وعندما تتعمق ظاهرة 'الاستحمار' للشعوب، تستطيع قوى الثورة المضادة التآمر ضد الشعوب ومنع التغيير الديمقراطي المنشود. وثمة مصاديق عديدة لهذا الامر في العديد من البلدان العربية، فالحرية لا يستحقها الا الاحرار الذين يتمردون على القيود ويكسرون الاغلال ليس من ايديهم فحسب، بل من نفوسهم وعقولهم كذلك. تعيش امة العرب عاما صعبا تتآمر فيه قوى الثورة المضادة للقضاء على آمال التغيير والتحرر والحرية لديها، وما لم ينبر دعاة هذه الحرية للاستمرار في الحراك الثوري بوضوح وبصيرة واصرار وايمان فستظل الثورات مهددة من داخلها، والشعوب اسيرة لدى قوى الثورة المضادة خصوصا في مجالات الفكر والهوية والانتماء.

القدس العربي

copy_r