هي المرة الثانية التي تلمح فيها دولة عربية أساسية إلى احتمال توجهها
لامتلاك سلاح نووي...الأمير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق، قال
ذلك في "منتدى الخليج والعالم" قبل يومين...المرة الأولى صدرت عن الرئيس
العراقي الراحل صدام حسين، ذات مؤتمر صحفي بعد غزو الكويت، حين أشهر "قدّاحة
نووية" وتعهد بـ"هلط" نصف إسرائيل إن هي فكرت في الاعتداء على العراق...ذهب
صدام وذهبت "قداحته"، بل وذهب العراق، فيما لم تتعد خسائر "الردع العراقي" في
الصفوف الإسرائيلية، القتيل الواحد، ويقال أنه ذهب ضحية نوبة قلبية، وليس
بإصابة مباشرة من الصواريخ العراقية.
أياً يكن من أمر، لقد بذل العرب ما يزيد عن الثلاثين عام وهو "يناضلون" في سبيل
"شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية"، من دون جدوى...لم يتركوا محفلاً ولا
منبراً، إلا وطرقوا أبوابه ونوافذه سعياً وراء هذا الهدف ولكن ماذا كانت
النتيجة؟...النتيجة كانت أن إسرائيل بقيت وحدها من يمتلك هذا السلاح، بل وتمتلك
ترسانة كبيرة منه....وهي كادت أن تلجأ إليها كما تكشف مذكرات مسؤوليها في حرب
أكتوبر 1973، لولا الجسر الجوي الأمريكي الكثيف، الذي غيّر وجهة المعارك وحسم
اتجاهات الحرب، وبقية القصة المعروفة.
دخول إيران إلى "النادي النووي" قرع أجراس إنذار كثيرة في بعض العواصم العربية،
خصوصاً الخليجية...لقد تقدم البرنامج النووي الإيراني، رغم طابعه السلمي على حد
زعم طهران، على البرنامج النووي الإسرائيل، المُثبتة استخداماته العسكرية، في
حسابات الأمن الخليجي...وحلّت إيران واقعياً، محل إسرائيل بوصفها "العدو"، برغم
كل العبارات الدبلوماسية الملطفة التي يلغف فيها الإخوة الخليجيون تصريحاتهم
ومواقفهم حيالها...وتحوّل السباق على السلاح النووي، إلى واحدة من مهددات أمن
الإقليم والسلم الدولي على حد سواء.
إيران لن توقف برنامجها النووي بأي حال من الأحوال، وهي بفرض أنها صادقة وشفافة
في الحديث عن هذا البرنامج، إلا أن ما يفصلها عن "القنبلة" في ختام هذه الرحلة
"التكنولوجية" الطويلة، لم يعد يتعدى القرار السياسي بإنتاج هذا السلاح...لقد
أكملت القنبلة النووية الإيرانية "عدّها العكسي"، وهي إن لم تكن قد صُنّعت
فعلاً، فإن أمر صناعتها لم يعد سوى مسألة أشهر على أبعد تقدير.
إذن، لقد وصل برنامج إيران النووي نقطة اللاعودة...وكل ما يمكن لأي ضربة عسكرية
أن تنجزه، هو إعاقة هذا البرنامج لبضع سنوات على أبعد تقدير...وهذا ما تدركه
أكثر الدوائر حماسة لتوجيه ضربة عسكرية لإيران، سواء في إسرائيل أو الولايات
المتحدة وبريطانيا...فما الذي يتعين على العرب أن يفعلوه ؟!.
لم يعد الصراخ والضجيج خياراً...أكثر ما يمكن أن تأتي به أشد حملات التحريض
العربي أو الإسرائيلي ضد برنامج إيران النووي، هو إعاقته، ولكن حتى بفرض
استصئاله واجتثاثه، فإن السؤال التالي الذي سيطرح نفسه بإلحاح شديد هو: وماذا
عن برنامج إسرائيل النووي العسكري المتحقق، والمُرحّل فوق أزيد من مائتي صاروخ
متعدد المديات والأحجام؟...هل يجوز أن نجرد إيران من أنيابها، ونبقي لإسرائيل
مخالبها النووية الأشد هولاً وفتكاً؟...هل يجوز أن تنفرد دولة واحدة في الشرق
الأوسط، بسلاح الدمار الشامل هذا؟
يبدو إن الذهاب إلى برنامج نووي عربي قد بات أمر لا مفر منه، من أجل خلق "توازن
ردع متبادل"...إن أردنا السلام في هذه المنطقة، فلا بد من "توازن رعب"...وثمة
دول عربية مؤهلة أكثر غيرها للشروع في كسر الاحتكار النووي الإسرائيلي، حتى وإن
كانت تقصد بناء توازن ردع مع إيران، وليس مع إسرائيل، وأعني بهذه الدولة
المملكة العربية السعودية، بعد أن انتهى العراق إلى ما انتهى إليه، وإلى أن
تخرج مصر من أزمتها، وتتحسس سوريا موطئ أقدامها في المرحلة المقبلة.
وفي ظني أن المملكة ليست بوارد السير في "درب الجلجلة" للوصول إلى "القنبلة"،
كما فعلت دول عديدة، أو جميع الدول النووية بالأحرى...ثمة تقارير أفادت وتفيد
بأن السعودية "تمتلك أسهماً" في البرنامج النووي الباكستاني، إن جاز التعبير،
وأنها ممول رئيس لهذا البرنامج، وأن من شروط التمويل، الحصول على "القنبلة"
جاهزة، إن وجدت المملكة نفسها بحاجة إلى ذلك، وهذا قد يحصل بأسرع مما يُظن، على
الرغم مما قد يثيره أمر كهذا من ضجيج وردات فعل دولية.
ثمة خطوط حمراء للأمن القومي العربي لا يجوز السماح باجتيازها، أو بالأحرى
الاستمرار في اجتيازها...واحدٌ من هذه الخطوط، التفرّد الإسرائيلي بهذا
السلاح...تخيّلوا سيناريو التفرد الأمريكي بالقنبلة النووية، وعدم دخول دولتين
أوروبيتين وروسيا والصين إلى عضوية هذا النادي، قبل أن تلتحق به كل من الهند
والباكستان...أي سلم عالمي كان سيُبنى في وجود دولة نووية واحدة...وحده توازن
الرعب المتبادل، وفّر قوة الردع المطلوبة لإجبار العملاقين على الجلوس إلى
موائد التفاوض حول مختلف العناوين والأزمات الدولية.
لست شخصياً على قناعة بأن تصريح الأمير السعودي سيترجم غداً إلى خطوات عملية
ملموسة...بل وقد يتم التراجع عنه أو نفيه وتوضيحه، على أنني لا أستبعد أبداً أن
تقدم المملكة على خطوة من هذا النوع، إذا "أفلتت" إيران ببرنامجها
النووي...مؤسف أن يكون تلويح العرب باللجوء إلى الخيار في مواجهة إيران وليس
رداً على التفرّد الإسرائيلي بهذا السلاح، ومنذ أكثر من ثلث قرن.
وأخيراً، حتى ونحن ذاهبون للسلام والتسويات مع إسرائيل أو أي من دول الجوار
الإقليمي للعرب، فلا بد من التسلح ببعض الأنياب والمخالب...فهذا وحده ما يجعل
السلام ممكناً بل ومستداماً...والشرق الأوسط إما أن يكون خالياً من السلاح
النووي، أو لا يكون، ولا يجوز بحال أن تظل عضوية النادي النووي في هذه المنطقة،
محصورة بدولة واحدة، فما بالك حين تكون هذه الدولة هي آخر استعمار على وجه
الأرض؟!.
مركز القدس للدراسات السياسية