أجواء العلاقات بين العراق والكويت لا تبشر بخير، بل تنذر بالمزيد من التوتر
الاقليمي الذي لن يقتصر على الاشكالات الحدودية بل من شأنه ان يتخذ أبعادا شتى
خصوصا في اجواء الشحن الايديولوجي والطائفي المقيتة. لقد مضت عشرون عاما على
أكبر أزمة في علاقات البلدين الجارين، وهي الازمة التي أسست لسقوط نظام صدام
حسين على ايدي التحالف الانكلو امريكي، وما تزال الاجواء ملبدة بالسحب الكثيفة
التي قد تتحول الى اعاصير ما لم يتم احتواؤها من قبل وسطاء محايدين. ومع وجود
قناعة لدى المراقبين بان الازمة مفتعلة ربما من اطراف غير كويتية، فليس كثيرا
على تحالف يضم مصر وتركيا وايران تشكيل فريق عمل على اعلى المستويات للتدخل
الفوري لنزع فتيل الازمة التي تبدو محدودة في الوقت الحاضر ولكنها مرشحة
للتصاعد.
ولن يكون الوجود الامريكي في كلا البلدين حائلا دون حدوث ما لا يحمد عقباه،
خصوصا مع تعمق الشعور الامريكي بالاحباط بسبب اصرار العراقيين على خروج القوات
الامريكية في الموعد المحدد سلفا بنهاية هذا العام. وربما يبدو للبعض ان قرار
الكويت بناء ميناء مبارك في المضيق المائي المحيط بجزيرة بوبيان، هو سبب
الازمة، ولكن الامر يتجاوز ذلك ويمتد بجذوره الى ما قبل سقوط نظام صدام حسين،
ويتصل بما حدث بعد العام 1991 خصوصا ترسيم الحدود من قبل القوى التي شنت الحرب
على العراق وفرضت، من وجهة نظر العراقيين، ما سمي 'عدالة المنتصر' او 'انتقام
الغالب'. وحتى هذه اللحظة يشعر قطاع واسع من العراقيين ان ذلك الترسيم فرض على
العراق في لحظة ضعف النظام بعد حرب مدمرة دامت ستة اسابيع وأتت على الاخضر
واليابس، وحولت العراق الى ركام من الدمار والحطام، المادي والبشري والسياسي.
وكان واضحا منذ حدوث التغيير في 2003 ان هناك ترددا لدى القيادات السياسية
الجديدة ازاء مطالبة الكويت بالاعتراف بالحدود التي رسمتها لجنة تابعة للامم
المتحدة باشراف امريكي بريطاني قبل عشرين عاما. بل ان تلك الحدود تأسست في خيمة
صفوان التي حضرها وزير الدفاع العراقي آنذاك، سلطان هاشم مع الامريكيين
'المنتصرين'. وصدرت منذ الشهور الاولى بعد التغيير تصريحات من اطراف عراقية
عديدة توحي بمخزون من المشاعر الغاضبة ذات الصلة بالانتماء الوطني والكرامة
والحق المهدور.
ملفات عديدة تجدر مراجعتها من قبل من يسعى لنزع فتيل الازمة، ساهمت في التصعيد
الاعلامي المتبادل بين البلدين، وهو تصعيد بدأ ينعكس على الرأي العالم المحلي
في كل منهما. ويكفي الاطلاع على ما تنشره المواقع الالكترونية لاكتشاف خطر ذلك
على العلاقات المستقبلية بينهما، وضرورة اتخاذ خطوات الى الوراء لمنع تفاقم
الازمة وحصر التعاطي معها ضمن الدوائر الرسمية والاطراف الوسيطة. الامر المؤكد
ان اعلان الكويت عن عزمها على بناء الميناء كان عود ثقاب لمخزون من الغضب
والاحساس بالظلامة لدى قطاعات واسعة من العراقيين. ومن الملفات التي لم يتم
تناولها بحكمة: ملف التعويضات المالية التي فرضت على العراق بسبب اجتياح الكويت
في الثاني من اب /اغسطس 1990. فقد تلقت الكويت من تعويضات الحرب حتى الآن 33.3
مليار دولار، وما زالت بغداد مطالبة بدفع نحو 19 مليار دولار، ويدفع العراق
حالياً 5 في المائة من عائداته النفطية والغازية لصندوق خاص للامم المتحدة
للتعويض عن احتلاله الكويت لمدة سبعة اشهر عام 1991. ومن القضايا ايضا الإصرار
الكويتي بشكل حثيث على إبقاء العراق ضمن البند السابع بالامم المتحدة، وملاحقة
الحكومة الكويتية الطيران العراقي ومنعه من التحليق الى البلدان الاوروبية حتى
اصبح من المتعذر على ذلك البلد الاكبر في الشرق العربي التواصل الجوي مع العالم
الخارجي الا باستعمال شركات الطيران الاجنبية. وهناك أيضا مطالبة الكويت بحجز
ممتلكات الخطوط الجوية العراقية التي تبلغ مليارا و200 مليون دولار. واذا أضيف
الى ذلك إصرار الكويت على بناء الميناء الذي يعتقد العراقيون انه غير ضروري،
وان الاصرار عليه محاولة لتحدي الارادة العراقية، تتكرس القناعة بخطر الوضع
وضرورة السعي لاحتوائه لكي لا تفلت الامور. وفي الوقت الذي يشكل فيه التصعيد
خطرا على الكويت بالدرجة الاساس، فان العراق نفسه لن يسلم من تبعات ذلك
التصعيد، خصوصا على صعيد الداخل والعلاقات بين مكوناته السياسية. فمواقف
الفرقاء العراقيين ازاء الكويت ليست متجانسة، بل هناك قدر غير قليل من التضارب
والاختلاف. فوزارة الخارجية العراقية التي يرأسها هوشيار زيباري لا ترى في بناء
الميناء مشكلة، ولكن يرد اهل البصرة مثلا بان منطقتهم هي التي سوف تتضرر بشكل
اساس من ذلك، وان وزير الخارجية ينظر للمسألة من منطلق مختلف ذي بعد مناطقي.
وثمة اطراف داخل التوافق السياسي، الشيعي والسني، الذي يسعى لتخفيف التوتر
ويدعو لحل المشكلة ضمن الاطر المنطقية والاخوية. بعض العراقن يعتقد ان قرار
بناء الميناء الكويتي جاء ردا على قرار عراقي اتخذته بغداد في 2005 ببناء ميناء
الفاو الكبير ليكون منفذا للعراق الى مياه الخليج، خصوصا ان احتياجات العراق
للمواد المستوردة في تصاعد لا سيما اذا قرر قادته مشاريع واسعة لاعادة الاعمار
في الجنوب الذي بقي في طي النسيان عقودا.
الكويت، ذلك البلد الخليجي المحاط بدول ثلاث كبرى، سوف يبقى محاصرا بجغرافيته
من جهة وبسياسات حكامه من جهة اخرى. انه لن يستطيع ان يقفز على واقعه الجغرافي،
ولكن بامكانه انتهاج سياسات أكثر حكمة، خصوصا تجاه العراق الذي تمثل العلاقات
معه اشكالية متواصلة، سواء خلال حكم صدام حسين ام النظام الحالي. والواضح ان
الولايات المتحدة التي تدخلت لـ 'تحرير' الكويت' قبل عشرين عاما لا تبدو متحمسة
لمنع التوترات الاقليمية، بل ربما رأت ان تلك التوترات تخدم مصالحها
الاستراتيجية. وفي الشهور الاخيرة كان واضحا ان امريكا مضطربة بسبب اصرار
العراقيين على ضرورة التزامها بخطة الانسحاب التي تقتضي إكماله مع نهاية العام
الحالي وفق اتفاقية 'سوفا' الموقعة مع بغداد. والواضح ايضا ان واشنطن تسعى
لاطالة وجودها السياسي والعسكري في البلد الذي تعتقد انها 'حررته' من نظام صدام
الديكتاتوري. فلديها الآن اكثر من ستة آلاف موظف تابعين لسفارتها في بغداد، وهي
السفارة الكبرى في العالم. كما ان لديها قواعد عسكرية عملاقة تسعى للاحتفاظ بها
برغم وجود تململ لدى جهات عراقية مناوئة للوجود الامريكي. فعلى مدى الاعوام
الثمانية الماضية قامت ببناء عدد من تلك القواعد المنتشرة في شرق البلاد منها:
قاعدة بلد القريبة من الحدود الايرانية، وعين الأسد القريبة من الرمادي (غربا
بالقرب من الحدود مع الاردن)، والتاجي القريبة من بغداد، والناصرية جنوب
العراق، وأربيل في كردستان، والبصرة والموصل وكركوك. وقد انفق على بناء هذه
القواعد عشرات المليارات من الدولارات وليس متوقعا ان تتخلى الولايات المتحدة
عنها بسهولة. وقد وقفت جهات عديدة ضد تمديد بقاء القوات بعد انتهاء مدتها،
خصوصا من قبل التيار الصدري الذي هدد بالاحتجاجات الواسعة ضد ذلك. وقامت
مجموعات اخرى منها 'كتائب حزب في الله' وعصائب اهل الحق، بعمليات عسكرية
استهدفت الوجود الامريكي. ووفقا للاحصاءات المتوفرة فقد قتل اكثر من عشرين
جنديا امريكيا خلال شهر اب/اغسطس وحده في تلك العمليات. ويرى البعض ان اصرار
العراقيين على خروج القوات الامريكية سوف يصاحبه المزيد من الاعمال الارهابية
في الداخل والتحرشات من الخارج، خصوصا من السعودية والكويت. وليس مستبعدا ان
تكون الزوبعة حول ميناء مبارك جانبا من الحملة المنظمة ضد العراق بهدف اجباره
على الرضوخ للمطالبة الامريكية بتمديد بقائها العسكري.
مشكلة الحدود واحدة من القضايا التي تعصف بالمنطقة، ولا تقتصر على الكويت. ولكن
هذا البلد الخليجي المبتلى دفع ثمنا كبيرا لهذه الخلافات وما يزال مرشحا للمزيد
من الصعوبات في هذا الجانب. وتجدر الاشارة الى انها ليست المرة الاولى التي
تواجه الكويت فيها تحديا خارجيا عندما تقرر بناء مشروع كبير بالقرب من الحدود.
فما تزال غير قادرة على البدء بتنفيذ مشروع 'مصفاة الزور' في ما يسمى 'المنطقة
المقسومة' جنوبي البلاد خصوصا بعد ان قررت السعودية في 14 يوليو 2008 تمديد عقد
شركة 'شيفرون' في تلك المنطقة عشر سنوات اخرى. وكانت الشركة قد امتنعت في 2007
عن تسليم الارض المخصصة لاقامة مصفاة الزور وهي المصفاة الرابعة في الكويت التي
يتوقع ان تحل محل مصفاة الشعيبة التي آل عمرها الافتراضي الى الانتهاء. وسوف
تزيد المصفاة المزمع بناؤها مجموع الطاقة التكريرية الى 1.4 مليون برميل يوميا.
وبرغم ان الكويت ما تزال تصر على المضي في المشروع الا ان الاعتراضات السعودية
ما تزال قائمة، بينما يرى الكويتيون انه اعتراض في غير محله لان المشروع يقام
على ارض كويتية وليس من حق السعودية الاعتراض. وكانت السعودية نفسها قد وضعت
يدها في 1994 على حقل الشيبة في منطقة تابعة لأبوظبي، وبدأت ضخ النفط منه بمعدل
يصل الى 600 الف برميل يوميا، وما تزال العلاقات بين البلدين متوترة بسبب ذلك.
ويقع الحقل في شمال ربع الخالي على بعد عشرة كيلومترات من حدود ابوظبي، في
منطقة تابعة لها تنازلت عنها مؤقتا للسعودية، حسب ما يقوله مسؤولون اماراتيون.
هذه الاشكالات الحدودية ما تزال تستعصي على الحل نظرا لغياب رغبة التوافق
والتسامح والتعاون بين الدول العربية التي ورثت المشكلة من ايام الاستعمار،
والتي اصبحت اكثر انشدادا لمنطق الدولة القطرية بديلا لخياري 'الأمة' و
'الملة'. ويأتي اللغط حول بناء ميناء مبارك على خلفية حوادث الماضي القريب بين
البلدين، وهي حوادث ما تزال تلقي بثقلها على الواقع الحالي وسوف تتواصل تبعاتها
السياسية والامنية فترة اطول. العراقيون يتساءلون عن مدى شرعية مطالبة بلدهم
بدفع 'تعويضات' عما حدث قبل عشرين عاما، خصوصا بعد ان دفعوا اثمانا مضاعفة
لمغامرة النظام السابق في الكويت. فقد فرض على البلاد والشعب حصار ظالم ادى الى
وفاة الآلاف وتراجع البلاد عقودا. ويشعر الكثير من العراقيين، ومن بينهم تجمعات
جديدة غاضبة من بينهم 'شباب بلا قيود' بظلامة كبيرة بان الكويت تستغل اوضاع
العراق الصعبة وتبالغ في معاقبته على سياسات كانت الكويت طرفا ساهم فيها بالمال
والسلاح. يتساءل هؤلاء عن حكمة الكويت عندما تصر على استقطاع خمسة في المائة من
عائداته النفطية لصندوق تعويضات دولي خاص عن الأضرار الناجمة عن غزو الكويت صيف
عام 1990، في الوقت الذي يحتاج فيه لموازنات هائلة لاعادة اعمار البلاد التي
تعاني من نقص حاد في الخدمات والبنى التحتية. وقد بلغ مجموع ما اقتطع من
العائدات النفطية العراقية حتى الآن اكثر من 15 مليار دولار. الجانب الكويتي
يقول انه تنازل عن 80 بالمائة من 'القروض' التي قدمت للعراق خلال الحرب
العراقية الايرانية، ولكن الجانب العراقي يشكك في ذلك ويعتبر دعم الحرب كان
خطيئة كبرى. وقد طرحت الحكومة العراقية مقترحات عديدة أقل حدة من الدفع المباشر
من بينها فتح فرص استثمارية للكويت داخل العراق، ولكن لم تلق تلك الاقتراحات
آذانا صاغية. فالتعويضات وسيلة ضغط على بغداد لاقرار ترسيم الحدود الذي يقول
العراقيون انه ضم اراضي عراقية للكويت بدون وجه حق، وان الحدود التي تم ترسيمها
وفق القرار الدولي 833 ليس مقبولا من قبل العراق. انها ازمة لها علاقة بانعدام
الثقة بين الجانبين من جهة وشعور العراقيين بالظلامة الدولية التي حدثت تحت
المظلة الغربية. أيا كان الامر فسيظل الملف الحدودي بين البلدين مفتوحا امام
الاجتهادات واعادة الترسيم في ظروف طبيعية لا يشعر اي من الطرفين فيها بالاكراه
او الاجبار تحت الضغط.
الكويت، من جانبها، تطرح قضية المفقودين الذين اختفوا خلال الاجتياح العراقي في
1990، وان هناك اكثر من 600 شخص لا يعرف عن مصيرهم شيء. العراقيون لا يعتبرون
انفسهم مسؤولين عن هذا الاختفاء القسري، لان ملف المخطوفين غير معروف، وليست
لديهم ادلة او وثائق حولهم. وقد طلب المسؤولون العراقيون من الكويتيين مرارا
زيارة العراق والقيام بالبحث عن أسراهم والاطلاع على ما هو متوفر من وثائق. وفي
رأي اغلب المراقبين فقد اصبح من الضروري غلق ملف الاسرى الذين مضى على اختفائهم
اكثر من عشرين عاما، واصبح مصيرهم شبيها بمصير العراقيين المفقودين. مع ذلك
يتمسك الجانب الكويتي بملف المفقودين كورقة ضغط على بغداد، الامر الذي من شأنه
ان يضغط اكثر على العلاقات بينهما بدون ان يؤدي الى نتائج تذكر. ان الاجدر
بالكويت ان تتحرك بعقلانية وحكمة، وتتحاشى إثارة الشعب العراقي بالامعان في
تطبيق قرارات فرضتها الولايات المتحدة الامريكية عن طريق الامم المتحدة. فليس
من المعقول الاستمرار في المطالبة بما يسمى 'التعويضات' من بلد كان ضحية الحروب
المتوالية التي كانت الكويت مرتبطة بها بشكل او آخر. فالكويت شريكة في حربي
الخليج الاولى والثانية، وليست منفصلة عنهما. صحيح ان العراق كبلد، يتحمل ما
يترتب على سياسات حكامه الماضين والحاضرين، ولكن ضمن ما هو معقول وعادل. فمن
المؤكد انه لو كانت هناك جهة عربية او اسلامية محايدة للنظر في المشكلة لكان
لها قرارات مختلفة في ما يتعلق بالتعويضات والحدود والمفقودين الكويتيين وبناء
ميناء مبارك بالشكل الذي يقول العراقيون انه يضيق عليهم منفذهم الوحيد للخليج،
خصوصا ان جزيرة بوبيان ليست آهلة بالسكان ولا تحتاج لميناء خاص بها. فلدى
الكويت سواحل طويلة على الخليج، بعيدة عن العراق، وكفيلة باستيعاب ميناء آخر
الى جانب ميناء الكويت او الاحمدي. وحتى لو كان للكويت حقوق مترتبة على العراق،
وهي ليست نتيجة سياسات عراق اليوم، فمن الاجدر الابتعاد عن كل ما من شأنه اثارة
مشاعر شعب عانى عقودا من الحصار والظلم والحرب والاحتلال. اما الاستمرار في
السياسات الحالية فهو الطريق المؤدي للتوتر والتدخلات الاجنبية والحرب
والضغينة، وهذا ما لا تحتاجه المنطقة في الوقت الراهن، لان ما يقال عن العراق
يصدق وان بدرجة أقل على السعودية التي هي الاخرى تحاصر الكويت جنوبا وغربا وعلى
الحدود الشرقية بحرا. مطلوب تغليب الحكمة والعقل على مقولات 'المصلحة' و 'الحق
المشروع' لكي لا يتضاعف الضرر وتسفك الدماء مجددا.
القدس العربي
07-09-2011