يبدو أن منطقة الشرق الاوسط لن تستثنى من إعادة التوزيع الجيوسياسية التي
انتظمت أنحاء العالم مؤخرا , مرتكزة على المصالح المتقاطعة بين السياسة
والاقتصاد لجهة قوى" دولية مؤثرة أضعفت خصومها ومضت قدما في ترسيخ قواعد " لعبة
جديدة " تدار وفق مراحل متدرجة , لكنها لم تهمل أبدا" أية جغرافيا تشكل مصلحة
مستقبلية ، فالاشارات الصادرة عن البيت الأبيض وبقية الادارات الرسمية
الامريكية المعنية تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن خطط لاعادة ترتيب المنطقة
تجري علي قدم وساق.
ومن الواضح الجلي ان هذه القوى تمكنت من ترتيب أواسط أسيا الى حد ما خاصة مناطق
النفط والجغرافيات التي ينساب عبرها الى الاسواق العالمية , وحاولت جاهدة
التغلب على مصاعب كانت تعترضها في أمريكا الجنوبية الا أن الحظ لم يكن مواتيا
لها , الامر الذي يشكل تحديا مستمرا للجهات المتنفذة في نفط امريكا الجنوبية
لغير صالح القوى الدولية في ضوء معطيات اقتصادية واضحة تدلل الى رغبة سافرة في
السيطرة على الموارد الطبيعية المهمة في العالم وتطويعها بشتى الوسائل لجهة قوى
بعينها , وبحيث لا تتقاطع مستقبلا مع مصالحها السياسية والاقتصادية .
لم تفقد القوى العظمى _ وأنا أتحدث تحديدا" عن الولايات المتحدة _ إهتمامها
بمنطقة الشرق الاوسط لدواع و اعتبارات ما عادت خافية على أحد , سواء كانت تلك
الاعتبارات جغرافية أو إقتصادية أو سياسية أو حتى بسبب تقاطع مصالح تلك القوى
مع قوى إقليمية زرعت في المنطقة منذ خمسين عاما" وباتت بؤرة لتوتر مستمر وشد
وجذب مشّكلة نقطة لتدخلات دولية واضطرابات إقليمية واسعة .
أفرزت أحداث أيلول سبتمبر أو بالاحري وّظفت لتحقيق معطيات دولية واقليمية
جديدة , تعامل معها البعض بايجابية تناسب الوقائع الجديدة , فيما هيمن على
البعض شعور بان العالم لم يتغير بعد _ يؤكد كاتب هذا المقال ان مخططات
التغييرات وإعادة التوزيع والتقسيم لدول المنطقة ستطال دولا لم تكن بالحسبان _
, والواقع أن المعادلة الدولية لم تهتز بسقوط برجي التجارة , إذ كانت الارهاصات
الاولى للتغيرات العالمية بكسوف شمس المحور الاشتراكي وميلاد صيغ تحالفية جديدة
لجهة القوى المتغلبة , وتكريس النزعة ( العولمية) في الاقتصاد , ونهوض وسقوط
منظومات اقتصادية وعالمية , وإنهيار اقتصاديات في أقاليم كاملة , ونشوء قوى
أخرى مكانها , خلخلة سياسية وإقتصادية جعلت من الصعب تماسك المعادلات القديمة ,
بل وإتجهت لفرض مدوّنات فكرية جديدة أفرزت فكرتي صراع الحضارات وحوارها ! وغض
ألنظر عن فرضيات هنتجتون وفوكاياما , والصدام الماثل حاليا بين قوى يمينية في
الغرب واخرى في الشرق بذرائع ومسّوغات ظاهرية تخفي أطماع ونّيات مبيتة لاستيطان
(إقتصادي ) جديد , فان إعادة ترتيب منطقة أواسط اسيا كان إيذانا بخطط اخرى
لغربلة ألشرق الاوسط .
تهدئة الاوضاع الفلسطينية لاعداد المسرح العراقي
مؤشرات عدة تنبيء عن اتجاه قوي لاخماد الحريق الفلسطيني مؤقتا بتشكيل سلطة
فلسطينية بديلة غالبا ما يتولاها رجل قوي على شاكلة محمد دحلان ( ذكر لي
الاستاذ بلال الحسن انه ضمن احد عناصر ترشيحه القبول المصري له لانه من ابناء
قطاع غزة المعروف بالاشراف المصري عليه تاريخيا) يجد قبولا في الاوساط
الفلسطينية والعربية , وقادر على اعادة التفاوض الى مساره , القوى الدولية من
جهتها ستمارس ضغطا على تل أبيب ( شارون ) من اجل التهدئة التي ستأخذ شكلا من
اشكال الانسحاب من الارأضي التي إحتلتها القوات الاسرائيلية في سبتمبر 2000م
واطلاق آلاف المعتقلين في السجون الاسرائيلية وإعادة آلاف العمال , والافراج عن
اموال السلطة الفلسطينية ، هذه الميزات في مقابل القبول ببديل للرئيس عرفات
الذي سيصبح رئيسا فخريا ليتسنى للولايات المتحدة قبول دعايتها في المنطقة وشحذ
همة إعلامها ضد النظام العراقي الذي يبدو انه لم يدرك بعد ان المعركة هذه المرة
( جدية) وتجري لها عملية تهيئة أجواء واسعة في الرأي العام العربي والعالمي ,
فالولايات المتحدة الامريكية بعد أن أجرت جراحات عميقة في مناطق النفط في أواسط
أسيا , تتجه لايجاد (معادلة نفطية ) جديدة في الشرق الاوسط باعادة النفط
العراقي الى حيّز الاحداث الاقتصادية وتطويعه لصالحها عوضا عن النفط الخليجي ,
علاوة على قطع الطريق أمام أي تحالف يرهص به المستقبل بين طهران - بغداد - دمشق
.
الضغوط التي مورست بحق (بولند اجاويد) المتحفظ على ضرب بغداد انطلاقا من تركيا
لم تكن بعيدة عن الاهداف الاستراتيجية لواشنطن في المنطقة , كما ان عملية تهدئة
الاوضاع بين الاسرائيليين والفلسطينيين جارية على قدم وساق ، كما ان التحذيرات
التي اطلقها (عدي) ألنجل ألاكبر للرئيس العراقي صدام حسين تجاه طهران تؤكد ما
ذهبنا اليه في مقالات سابقة من أن طهران تنظر بعين الاعتبار لعراق جديد تجري
تهيئته وإنتخابه ولا يفوتها اقتسام كعكته , ويبدو بالفعل أن ساعة النظام
العراقي قد أذنت لكن ما هي الانعكاسات المتوقعة على منطقة الخليج ؟ تشابك
المواقف بين الخليج ومحيطه الاقليمي , ودور البلدان الخليجية والسعودية على وجه
الخصوص في المعادلة الدولية غير خاف على أحد , علاوة على المورد الطبيعي الهائل
الذي بحوزة دول الخليج ويشكل مصدر قلق بالنسبة للقوى العظمى .
الأمن الخليجي في ضوء التغييرات العراقية
إذا نظرنا بعين الاعتبار الى الشخصيات العربية البارزة التي تحركت على مسرح
المعارضة العراقية مؤخرا , والى القناعة التي تولدت لدى الكثيرين في الولايات
المتحدة بان السعودية مصدر للازعاج ومكمن للخطر الايديولوجي , وما أفرزته هجمات
الحادي عشر من سبتمبر من توتر على العلاقات بين واشنطن والرياض افلحت
الدبلوماسية في تهدئته , فان ذلك يعني بان وراء الاكمة ما وراءها !!
- ذكر لي أحد الصحفيين في وول ستريت جورنال بان ملف دول خليجية سيفتح إثر
الانتهاء من الملف العراق وان هذا الملف في مراحله النهائية في الدوائر
الاستخباراتية الغربية -
ولا شك أن القوى الدولية التي ترتب ألان مسرحا شرق اوسطيا جديدا , سترتب
الاوضاع في منطقة الخليج على نحو لا يشكل خطرا" إقتصاديا وأيدلوجيا" عليها وعلى
حلفائها في المنطقة يركز الكاتب علي بروز المسألة الايدلوجية حتي قبل الحادي
عشر من سبتمبر ، فالمتابع لوسائل الاعلام الغربية يجد إتجاها قويا طيلة فترة
التسعينات من القرن الماضي لدراسة ابعاد المسألة الايدلوجية في الشرق الاوسط
وإنعكاساتها علي (السلم العالمي) ، بتركيز واضح على التيارات الايدلوجية في
منطقة الخليج ووصفها بأنها (مكمنا للخطر) يخشي منه على الدوام واتسعت رقعة
المعركة بعد أحداث سبتمبر ولم يكن إعلامنا متنبها بالقدر الكافي لحجم الدعاية
والتركيز الواضح على دور الايدلوجيا الخليجية في صناعة أيلول سبتمبر ، وكان
واضحا أن ألاعلام الخليجي تعامل مع الظاهرة كحدث وقتي لا تلبث أن تنقشع سحاباته
، لكن الواقع أن معركة من الوزن الثقيل كهذه تلقي بظلالها علي صناع القرار خاصة
علي المستوي الاستراتيجي هذا أن لم تكن جزء من إلاعداد ألاعلامي للصياغات
القادمة , ويبدو أن هذه القوي بعد أن ضمنت أطراف خليجية إلى جانبها وشكّلت فيها
أكبر مركز لتجمع مستودعاتها اللوجستية ، فكل متابع سياسي أو عسكري لا يجد مشقة
في ربط التوسعات التي شهدتها قاعدة (العيديد) الجوية في قطر ولا الإشارات
ألامريكية العسكرية التي تنبيء بدور ما لهذه القاعدة خلال 30 اسبوعا هي الفترة
المتبقية حسب تسريبات لبدء ضرب بغداد , في حين يتسرب الشك إلى الادارة
الامريكية من أن مواقف السعودية المنحازة إلى الإسلام والعروبة ستشكل مأزقا
مستقبليا , خاصة وأن الرياض تعاملت بتشدد وحزم حيال ملف وجود القوات الامريكية
علي أراضيها وهو ذات الموقف الذي تتخذه اليوم من ضرب بغداد خاصة بعد التقارب
السعودي العراقي في قمة بيروت ، ذلك التقارب الذي اكد علي إستقراء النتائج التي
ستفضي إليها (فوضي عراقية) علي المنطقة , وإتخذت مواقف اكثر حزما مع الادارة
الامريكية بشأن الازمة الناشبة في الاراضي المحتلة , وإختلفت مع واشنطن في
تعريف الارهاب , كل ذلك لم يخلّف إرتياحا لدى الادارة الامريكية التي ستسعى
جاهدة لتطويق الادوار السعودية وفعاليتها في المحيطين الاقليمي والدولي , بعدما
توضحت الصورة بابعادها أمام الامريكيين نظرا للديناميكية التي صبغت الحراك
الدبلوماسي والسياسي السعودي , وسيكون من الصعب على الامريكيين تفويت فرصة
تقليص الفعالية السعودية إذا ما استطاعوا تغيير نظام الحكم في العراق وإستمالة
النظام الجديد لصالحهم , ألامر الذي سيجعل بغداد ضمن حلف جديد تسعى واشنطن إلى
توسعته من الان بالاعداد الجيد لمعركتها القادمة .
إشارات عدة صدرت بحق بعض بلدان الخليج خلال الاشهر الماضية وأوحت بان ما تمتلكه
تلك البلدان من مقوّمات تمكنها من التفاعل الايجابي مع القضايا العربية
والاسلامية , يمثل مخاطر تهدد الشراكة على مختلف مستوياتها بين الخليج وواشنطن
, تلك الشراكة التي ترغب الادارة الامريكية الجديدة في جعلها غير متكافئة في ما
تضغط بعض الاطراف الخليجية في الاتجاه المعاكس , ولم تشكل إستمالة أطراف أخرى
لجهة واشنطن وشذوذ مواقفها بعض الشيء عن الموقف الخليجي العام _ وأنا أتحدث هنا
عن قطر وإعلامها علي وجه الخصوص _ الاثر الذي كانت تتوقعه ,إذ يظل التاثير
الاكبر مملوكا للقوى الخليجية ذات القدرات السياسية والبشرية والاقتصادية
الوافرة وأعود لاتمني علي القيادة القطرية أن يبث إعلامها بنزاهته و(حريته)
عمليات التوسعة الحالية لقاعدة (العيديد) وانطلاق المقاتلات منها لضرب العراق
لأن ما أتوقعه أن تشهد الحرب القادمة حربا موازية علي مستوي الفضائيات
التلفزيونية بصورة تكرّس لمعارك إعلامية بين دول الشمال (الخليجية) ونظيراتها
في الجنوب يضاف اليها تأثير القناة الاسرائيلية الناطقة بالعربية إضافة إلي
راديو (سوا) الامريكي ، إذ أن الفرصة ستكون مواتية للعب إعلامي من الوزن الثقيل
ودغدغة مشاعر المشاهدين الامر الذي ستستخدمه القيادة العراقية كمحرض للجماهير
العربية وتتلقفه بعض الفضائيات وتطوعه لجهة ضرب الامن القومي لبعض دول المنطقة
.
الإعلام السعودي .. وديناميكية أهل الكهف
في هذه الناحية على الأجهزة الإعلامية والدبلوماسية السعودية أن تشحذ همتها
بحيث لا تترك الترتيبات القادمة دون دور يحفظ أمنها القومي الذي ينطلق من بغداد
، ولا يمكن إنكار الدور الذي لعبته الدبلوماسية السعودية بقيادة الامير عبدالله
وفعاليتها في الملفين الفلسطيني والعراقي ، وفاعلية الخارجية السعودية بقيادة
الامير سعود الفيصل ، تلك الفاعلية التي جعلته وبلاده على رأس الحركة
الدبلوماسية العربية وفتحت ملفات إعلامية حول الادوار العربية في إشارة إلى
تقليص أدوار أخري لحساب الفاعلية السعودية ، لكن الفاعلية السعودية في هذا
الإطار لم توازيها فاعلية إعلامية بالشكل المطلوب ، إذ ظل الإعلام السعودي وكما
هي العادة يدور في أفلاكه القديمة دون أن يستوعب علي نحو عميق طبيعة المرحلة
وإستحقاقاتها التي تتطلب حضورا إعلاميا مميزا" وقادرا" علي خوض معارك في عدة
جبهات ومستقرئا" لمستقبل الأمن القومي السعودي ، فمن ناحية أدت التغييرات على
المستوى القيادي في بعض المؤسسات الصحفية و الاعلامية إلى نوع من الفراغ
الإعلامي لم تتمكن من ملئه حتي الآن ، ومن ناحية اخرى بدا وكأن القنوات
السعودية الخاصة (orbit,mbc,art,.. ) مشغولة بما هو أهم من (الأمن القومي)
ومكرسة ساعات بثها لموضوعات لا ترقى أبدا للمستوي الذي تعمل به السياسة
والدبلوماسية السعودية والاحداث القادمة على المنطقة على عكس الاعلام القطري
تماما .
السيناريو الجديد للولايات المتحدة الامريكية يرمي وبوضوح إلى تطويق أطراف
خليجية بعينها وشلّ فاعليتها بتحجيم دورها الاقليمي والدولي وذلك باشغالها إلى
درجة الشلّ بحملات إعلامية من دول خليجية ملاصقة لها ومؤسسات اعلامية أمريكية
بتقوية أدوار أطراف أخرى على رأسها بغداد ( الجديدة ) برئاسة كرزاي عراقي جديد
كما توضح إستقراءات تأخذ بالحسبان عدم وضوح الرؤية بالنسبة لتنظيمات المعارضة
العراقية على نحو دقيق الامر الذي يسهل بروز (كرزاي) عراقي .
*نائب المدير الإقليمي للإتحاد العالمي للإعلام وإستطلاعات الرأي- لندن.