شهدت المملكة خلال العقد الماضي حوادث عنف غير عادية، أو هي نادرة الحدوث
من حيث النوع، ولكنها متصاعدة من حيث العدد والأهداف والمسببات (انفجار الخبر،
انفجار العليا بالرياض، المواجهات المسلّحة العنيفة في الجنوب، التمرد في
السجون، اختطاف الطائرات، اغتيالات واختطاف ومظاهرات أدّت الى مصادمات، ناهيك
عن تصاعد الجريمة المسلّحة في السرقات والإعتداءات، وتصاعد عدد جرائم القتل
وغيرها، إضافة الى حالة الإنفلات الأمني التي تظهر بين الفينة والأخرى والتي
يقوم بها جمهور من الشباب في مناسبات عامّة "تجمعات كروية مثلاً" أو الشغب الذي
يظهر في وجود تجمعات أمام المؤسسات الحكومية).. كل هذه الأمور أُعطيت تفسيرات
سريعة سطحية، وتمّ تناول بعضها بصورة شخصية. ومن التفسيرات الملفتة والمتكررة
القول بأن هذه الأحداث مستوردة من الخارج أما بتأثير مباشر منه أو محاكاة له،
وهي بهذا تدخل عنصر التآمر الخارجي على الأمن في الداخلي كسبب رئيس لها.
وكما أن هناك خللاً أو نقصاً في تشخيص المشكلة، كذلك في التعاطي مع حلولها،
وأول الحلول المطروحة: الحل الأمني، ولكن هذا الحلّ وحده، وإن كان ضرورياً، لا
يكفي ولا يعالج المشكلة. فهذه الأحداث وقعت في وجود الشدّة والقسوة وعدم
التراخي الأمني، مما يجعل الإعتماد الزائد على "الحل الأمني" في معالجة الظواهر
الإنشقاقية الإجتماعية والسياسية دون تتبّع الجذور الحقيقية للمشكلات، لا يؤدي
على المدى المنظور الى تباطؤ في مستوى الجريمة، ولا في مستوى العنف من حيث
الحدّة أو النوعية أو الحجم.
هذا المقال يحاول رسم ملامح عامّة لأسباب المشكلة، وآفاق تطوراتها، والأشكال
التي تظهر بها، ووسائل ضبطها قدر ما يتوفر من مساحة مكانية وزمانية.
***
مصادر العنف
من الصعب الفصل من حيث الأسباب على الأقل بين العنف السياسي والعنف الأجتماعي،
إذ أن جذورهما تنبثق في كثير من الأحيان من قواسم مشتركة. ومع أن الجهات
الأمنية المسؤولة لا تقدّم تعريفاً خاصاً لما يسمّى بـ (الجريمة السياسية)
الأمر الذي يجعل من استخدامها بشكل شمولي أمراً ممكناً، حسب المسؤول الأمني
(المجتهد) وقد تبدأ بمشاجرة مع شرطي المرور حول مخالفة سير، مروراً بالتعرّض
لمؤسسات الحكومة بالنقد الكلامي أو الكتابي، والكتابة المنتقدة على الجدران،
الى تأسيس تجمعات معارضة أو ذات رأي دون المعارضة.. وانتهاءً باستخدام العنف
سواء ضد جهاز الدولة مباشرة، أو ضد مصالح أجنبية على أرض المملكة. مع هذا ينبغي
التفريق بين الجريمة السياسية والجريمة العامّة كالسرقة أو القتل لأسباب شخصية
أو الإعتداء على الممتلكات العامة والخاصة. بيد أن العقاب يختلف من حيث نوع
الجريمة، حيث توقع العقوبة الشديدة على مرتكبي الجريمة السياسية أكثر من غيرها،
حسب الجهة التي تتولى التحقيق، وحسب انتماءات المتهم المناطقية والقبلية
والمذهبية.
وفي المجمل يمكن تحديد مصادر العنف في أربعة أسباب رئيسية، هي حسب التسلسل في
الأهمية:
1 ـ سيادة ثقافة التطرّف وعدم التسامح
مواصفات هذه الثقافة، أنها ثقافة أحادية، بمعنى أنها تفترض إمتلاك الحقيقة
المطلقة، وأنها ثقافة إقصائية لمن خالفها، فهي لا تحترم الرأي المخالف حتى ضمن
الدائرة الفكرية الواحدة، وضمن المذهب الواحد. وهي فوق هذا ثقافة تميل الى
العاطفة أكثر من العلمية، وتنهج الى الشعار والحماسة وإلهاب عواطف الجمهور من
أجل حشده وتحريكه، لا من أجل ترشيده، ولذا فهي تميل الى التحريض، وتميل الى
التكفير، وهي أخيراً لا تفكّر كثيراً في العواقب السلبية، لا في المدى المنظور
ولا البعيد.
لسوء الحظ فإن هذا النوع من التوجه الثقافي موجود لدى الجهاز الحكومي، ولدى
المؤسسة الدينية، ولدى شرائح المجتمع الأخرى التي تفعل ذات الأمر من جهة الفعل
وردّ الفعل.
التعليم يعدّ أهم وسائل الدمج الإجتماعي، وإيصال ثقافة التعايش والإعتدال؛ ولأن
السياسة القائمة تستهدف (الصهر الديني/ المذهبي) للسكان وليس (الدمج الوطني)
الذي يتطلب ثقافة مختلفة، هي فوق المناطقيات وفوق المذاهب.. لذا، فإن التركيز
على فرض الرأي الواحد يبدأ مع الطفل في المدرسة قبل البيت، ونزعة التطرّف تنمو
لديه بالشكل (القانوني). فمناهج التعليم تولّد أجواء التطرّف وتغذّيه، وقد
باعدت بين المواطنين، وزادت الهوّة بين الجمهور والحكومة، وخرّجت أجيالاً
طائفية بالمعنيين المذهبي والمناطقي. لا المناهج الدينية ولا مناهج التاريخ
بوضعها الحالي، يمكن أن تساهم في جلب ثقافة معتدلة سواء تجاه الآخر الداخلي كان
مواطناً أم حكومة، ولا تجاه الآخر الخارجي أياً كان تصنيفه السياسي أو الديني.
كيف يمكن لمناهج تعلّم الطلاب منذ نعومة أظفارهم أن الحق المطلق يوجد عند جهة
واحدة، وتعلّمهم تصنيف بعضهم البعض على أسس مذهبية ومناطقية، وتكفير وتفسيق
وتجريم بعضهم لبعض، أن تفضي لاستقرار داخلي ونفسي؟ وكيف يمكن لتغليب ثقافة
مناطقية محددة وتجاهل المناطق الأخرى أن يسوّد ثقافة مشتركة تهتم بالقواسم
العامّة، وطنية أو دينية؟ إن مناهج التعليم تقدّم مسلّمات لا تراعي مشاعر
مواطنين آخرين، وهي من الحدّة بحيث أدت الى (انقلاب) على (الدين) وضعف الوازع
الديني خاصة بين الأجيال الجديدة، بل وأدت الى صراعات شارفت على استخدام
السلاح.
ذات الثقافة الدينية التي قام عليها بنيان المملكة السياسي الموحّد، لم تحتمل
الرأي الآخر من أتباع المدرسة، فمن يخرج قيد أنملة على المسلمات والقوالب يخشى
على نفسه من التكفير، وقد وصل الأمر بتكفير رؤوس الدعوة السلفية نفسها.
والحكومة نفسها، التي استخدمت السلاح الديني ضد مخالفيها وبنجاح، واعتمدت مدرسة
واحدة لشرعنة ذاتها، هي نفسها اليوم أصبحت موضع اتهام بالتكفير، وتواجه بدعوات
تجيز الخروج عليها. إن التكفير سلاح ذو حدين يبدأ بالآخر أولاً، وينتهي بالذات،
في عملية تدمير داخلي.
والموضوع الديني ليس مجرد لبوس يستخدم لشرعنة المطامح السياسية، بمعنى أنه ليس
مجرد وسيلة لشرعنة المعارضة أو لشرعنة احتكار السلطة، وإلباس الطموحات السياسية
ثوباً دينياً، بل هو محفّز قوي يمكن استخدامه للبناء وللتدمير معاً، حسب الفهم
الذي يعطى للجمهور. وطبيعة فهم الثقافة الدينية مجملاً وإن كانت عنصراً مستقلاً
بذاته في تحديد مستوى العنف، إلاّ أنه يتفاعل أيضاً مع العوامل الإجتماعية
والسياسية والإقتصادية الأخرى. والتطرف لا يأتي من المدرسة السلفية، وإن كانت
أكثر من ابتليت به، ففي غياب الإنفتاح السياسي، والإعلامي، وغياب الحوار
العقلاني في أجهزة الإعلام، وتجريم التلاقي والتحاور بين المختلفين في الآراء
الدينية والسياسية، يسهّل بروز وسائل الإحتجاج العنفي ويشرّعها لدى مختلف
الشرائح الإجتماعية.
ليس التعليم وحده مصدر الثقافة الأحادية، بل ما تبثّه أجهزة الإعلام، التي
أصبحت أجهزة غريبة عن مجتمعها، بحيث أن قلّة تعتبر ما تبثّه ممثلاً لها. فما
يبث من مواضيع دينية لا يعني إلا أتباع مدرسة واحدة، وما يبث من ثقافات هو في
الأكثر أقرب الى تراث وتقاليد منطقة بعينها، والمشاهد في شرق المملكة وغربها
خاصّة، يجد الإعلام العربي الخارجي أقرب اليه والى همومه العامة كعربي وكمسلم
وحتى الى همومه الخاصة منها بقدر ما من الإعلام الرسمي نفسه. فإذا ما تمّ
التنكر للثقافات المتعددة التي يتشكل منها المجتمع، وتمّ الإصرار على ثقافة
واحدة، تكون النتيجة أن ما يسمّى بسلطة الإعلام الرسمي تتبدّد.. باختصار لأن
قسماً كبيراً من المواطنين لا يتابعونها، وبالتالي لا يتأثرون بها، واليوم هناك
الكثيرون (يشفّرون!) أجهزة التلفاز بحيث يحذفون القنوات الرسمية كلياً وكأنها
غير موجودة.
والمسؤولون في المملكة ليس فقط يتحملون المسؤولية الكبرى في هذين المجالين:
التعليم والإعلام، بل هم مسؤولون بشكل مباشر عن ترويج الثقافة الواحدة التي لا
تحترم خصائص المواطنين، وبسلطة القانون، ويجري التعبير عنها في مختلف مجالات
الحياة حتى في البيانات الرسمية. خذ مثلاً أحداث نجران، فالبيان الرسمي يقول
أنه تمّ القبض على (مشعوذ) الذي هو في الواقع أقرب ما يكون الى زعيم ديني لدى
الإسماعيليين. لم يكن البيان الرسمي لوزارة الداخلية بحاجة الى هذا التبرير
الذي يستفزّ مجموعة غير قليلة من المواطنين، فهناك تبريرات كثيرة يمكن أن
تستخدم. حتى لو كان القائمون على الحكومة يتبنّون مذهباً بعينه، لا يبدو من
المنطقي أن يتهم ما يقرب النصف مليون مواطن بالشعوذة، وتقتحم مساجدهم، فتنشأ
أزمة تصل الى الإحتكام الى السلاح. حتى لو افترضنا أنهم مشعوذون حسب قناعة
المذهب الرسمي وحتى حسب قناعة القائمين على الجهاز الحكومي، هل هناك من حكمة ما
وراء الصدام مع المواطنين على قاعدة (مذهبية) وإشهار ذلك على الملأ؟
إن الإنحياز الواضح لثقافة مذهبية محددة والطعن في غيرها، وتدريس الطعون في
الكتب المدرسية، والترويج لثقافة غير جامعة وغير وطنية، يقود الى عنف المسود
وعنف السائد على حدّ سواء، وإن اختلفت مبررات كل منهما. وها نحن اليوم نقف أمام
حدّة العصبيات القبليّة والمذهبية والمناطقية وحتى الفكرية، فهذا علماني ملحد،
وهذا أشعري مشرك، وهذا معتزلي وذاك رافضي، وهذا من الشروق، والآخر حجازي صوفي
وهكذا.
من يمتلك حق التكفير للمواطنين، وحق الحجر على عقولهم، وحق تعليمهم ما لا
يرغبون وما يثير النعرات والحساسيات، ومن يحتكم الى ثقافة الحق المطلق، ويحرّض
على المخالف، قد يبدأ بالبعيد، ولا ينتهي بالحكومة، ولكنه ينتهي بأتباع الفريق
الواحد نفسه، يفعل بهم تمزيقاً، أو يتآكلون بالجمود وعدم التطوير في غياب
الإجتهاد.
أيضاً من يتقبل العنف وسياسة الإقصاء ضد البعيد، لن يمض به زمن طويل حتى يصل
الأمر اليه، فرداً كان أو جماعة. والمشكلة التي واجهت البلاد منذ بناء نواتها،
أنها قامت على عصبية مذهبية مناطقية، قالت أن الآخر غير أتباع الدعوة السلفية
كافر (وليس مشركاً فحسب) وعلى ذلك الأساس جرى نشر (الإسلام) الى الحجاز والشرق
والجنوب. لم يتغيّر شيء كثير من هذا حتى اليوم. والقضية ليست في التكفير فحسب،
فـ (السلفيون) ليسوا أول ولا آخر من كفّر، ولكنهم للحق أكثر من استخدمه من
السابقين واللاحقين في هذه الأمة. وتكفيرهم ليس بالمعنى النظري كأن تقول هذا
كفّر ذاك وانتهى الأمر عند هذا الحدّ، بل هو تكفير (رسالي) إن صح التعبير،
بمعنى أن هناك حركة دفع تالية لما بعد التكفير، وهو القتل والقسر على تغيير
العقائد، والتمييز في المواطنة، وما أشبه.
وها هي الدولة ومنذ تأسيسها، لم تتغير كثيراً في عقلها الديني/ المذهبي، فلا هي
تعترف بحقيقة التعدد المذهبي والثقافي بشكل عام، ولا هي قادرة على دفع الثمن
المتأتي من غياب هذا الإعتراف. أي العودة الى القديم، بحروبه ودمائه، الى ما
قبل الدولة القطرية. لازال هناك عدد غير قليل يريد أن (تُقطف رؤوس) الملحدين
العلمانيين والروافض والمتصوفة الذين يقيمون الموالد النبوية في الحجاز، ولم
يلبث الأمر أن وصل الى الحكومة نفسها: هل هي كافرة؟ وإذا كانت كذلك، فما هي
الخطوة التالية؟.
2 ـ غياب قنوات التعبير السياسي والفكري
وهذا يؤدي الى الإحتقان فالإنفجار غير المسؤول. وكذلك غياب القنوات والأطر
والمنظمات الأهليّة التي يمكن لها أن تستوعب بعض الطاقات وترشدها. خلافاً
للسياسة المتّبعة، فإن الخوف الحقيقي يكمن في الأمور التي لم تُـقَـلْ والتي لم
يُعلن عنها، وليس مما يقال ويعبّر عنه في العلن. الفلسفة المتبعة رسمياً تقول
بأن ما يصنّف في خانة (الضلال) الديني أو السياسي أحرى بالقمع وعدم السماح له
بأن يعلن عن نفسه وإن كان وجوده على الأرض حقيقة واقعة. فالليبراليون، هم
ملاحدة علمانيون، لا يجب أن يسمح لهم حتى بحقّ الرد، ويجري التفتيش وراء ما
يكتبون، ومحاسبة النيات لا الأدلّة الماديّة.. والشيعة روافض كفار، ووجودهم خطر
سياسي وعقائدي محدق في أي موقع أو مؤسسة يعملون فيها، خاصة في أجهزة الإعلام،
فهؤلاء لا حق لهم أيضاً في التعبير. وأنصاف المتدينين ـ بنظرهم ـ أو المتساهلين
في الدين، أو من يمارسون شركيات المولد النبوي وغيره، فيفترض أيضاً إقصاؤهم.
أما الفلسفة الحكومية في غير ما هو ديني/ مذهبي فيرى أن حرية التعبير تأتي
بالمشاكل، فهي تبدأ بالدائرة الواسعة وتصل الى الدائرة الضيقة، وهي نقد العائلة
المالكة، والإنفتاح يأتي بأفكار التغيير من جهة، وآراء التسقيط من جهة أخرى
لأنها تناقش ما يعتقد أنه مسلمات سياسية، وإن نقاش أي قضية كفيل بتسقيطها، لأنه
يضعها أمام مباضع التشريح، مما يهدد البناء الفكري التي تقوم عليه شرعية الحكم.
إذا كان هذا التوصيف صحيحاً، فإن النتيجة المنطقية للأمور هي: قلّة المؤسسات
الإعلامية في الأساس وطغيان الإعلام الرسمي؛ تصاعد حدّة الرقابة على الموضوعين
السياسي والديني/ المذهبي/ الفكري؛ إغراق الصحف بالكتاب المتملقين والمراقبين
الأمنيين، وزيادة نشر التافه من الأمور والقضايا. لكن القضية الأكثر خطراً من
هذا هي ليست فقط ما يستتبع احتكار الإعلام لفئات محددة من حيث الصنف، ولكن
انزواء خيرة العقول وتعطيل حركة الإبداع. وحتى هذا قد لا ينظر له بعض المسؤولين
سلبياً، بل هو خير، فطالما لجأ المثقفون وأصحاب الرأي وانكفأوا على ذاتهم وعلى
حلقاتهم الصغيرة في مجالسهم، فقد تمّ درأ الخطر من الناحية النظرية. لكن من
الناحية العملية، نشأ تيار عريض يحمل مفاهيم ورؤى مختلفة أقرب الى معاكسة
السلطة من أن يكون متوازياً معها، بشكل لا تستطيع أجهزة التعبير المتاحة
التأثير فيه لأنه لا يستقي رأيه او علمه منها، ولا تستطيع السلطة الأمنية أن
تمنع تأثيراته من التمدد خارج أسوار القلاع والحصون الرقابية.
بعبارة أخرى، هناك عزلة تعاني منها قنوات التعبير المحلية، والمسؤولون غير
قادرين ـ فيما يبدو ـ على إدراك حقيقة أنهم قد خسروا معركتهم الإعلامية
والتوجيهية مع شعبهم. ولأنهم لم يدركوا هذا الأمر، فإن الفاصلة الذهنية بين
المسؤول ورجل الشارع تزداد اتساعاً بصورة لم تكن مألوفة من قبل، بحيث أنه لم
يعد يعرف كيف يفكّر مواطنوه، ولا نوعية تطلعاتهم وهمومهم، وليس لديه مقياس
للرأي العام، ولا مجالاً حرّاً يمكنهم من خلاله التنبؤ بالتحولات الذهنية التي
يمرّون بها. هناك عالمان مختلفان، تجد ملامح الأول في قنوات التعبير المحلية،
في حين تجد (بعض) ملامح الآخر في مشاركات السعوديين عبر الإنترنت في المنتديات
ودوائر الحوار التي لا سلطة للرقابة الحكومية عليها.
وإذا ما تصاعدت الفاصلة بين الذهنيتين الحكومية والشعبية، فإن لغة التخاطب
والتواصل تكون ضعيفة، وأدوات الضبط الأمني ستكون غير قادرة على التنبؤ
بانفجارات المستقبل. ومن هنا، فإن توسيع قنوات التعبير الثقافي والإعلامي أضحت
ضرورة أمنية، وإن الحكومة بحاجة الى جهد كبير بل الى جهد مستحيل لإقناع
مواطنيها بالتواصل مع أجهزة التعبير المحلية، ولإفراغ ما بجوفهم من أفكار
ومشاعر وإحباطات ونقد وربما شتم أيضاً. فالتعاطي مع المعلوم أخفّ وطأة من
التعاطي مع المجهول. إن الفائدة لا تكمن فقط في تنفيس الإحتقان الداخلي لدى
المواطنين، والذي يتراكم عبر السنين، بل وفي معرفة اتجاهات الرأي العام المحلي
وقياس نبض الشارع وعزل الحصون الثقافية السريّة وإشاعة ثقافة الإعتدال
وتأطيرها، ومكافحة الأحادية الثقافية المتطرفة والتي ستبقى ما بقيت قنوات
التعبير ضيّقة أو معدومة، وما بقيت الأصوات الأخرى المختلفة مخنوقة مهمّشة.
أما قنوات التعبير السياسي، فهي خطوة لاحقة لحرية التعبير بمعناها الواسع. فلا
يمكن تخيّل انفتاحاً سياسياً ولو كان محدوداً بدون مقدمات (ليبرالية) على صعيد
حرية التعبير، إذ هي المدخل اليها والضامن لاستمرار وجودها وتطورها (نموذج ذلك
الكويت والأردن والمغرب). بديهي أن حرية التعبير لا تساير بالضرورة الإنفتاح
السياسي، فلا يعني وجود اللبرالية الإعلامية أو جزء منها، ديمقراطية أو جزءً
منها. العادة أن هناك ثلاث خطوات تتخذ على صعيد التحول السياسي.
الأولى: يبدأ النظام، أي نظام سياسي، بفك بعض تشبّثه بالسلطة، فتعطى وسائل
الإعلام القائمة بعضاً من الحرية أو قدراً كبيراً منها، بحيث تتمكن من استيعاب
الجزء الأكبر من الهموم الشعبية والطاقات المتعلّمة، وفي هذه الحالة يتقلّص حجم
الرقابة على المطبوعات، وعلى إصدار الصحف والمجلات، وتفك قيود الحظر على
التجمعات السياسية والثقافية، بل ويطلق سراح المعتقلين (السياسيين) الذين هم في
الغالب يقعون تحت مسمّى (سجناء الضمير)، وفي بعض الدول يتم السماح بتشكيل
الأحزاب السياسية والنقابية، أو يتمّ التغاضي عنها، لأنه لا يمكن منع قيامها في
حال وجود الحريات، إذ أن الوضع يفرض تبلورها حسب الإجتهادات البارزة في الساحة.
أي أن التعبيرات الثقافية تأخذ أشكالاً تنظيمية سياسية.
الخطوة الثانية، تدخل البلاد في مرحلة تحول انتقالي نحو تغيير النظام السياسي
بشكله التدريجي، وليس بالصورة الراديكالية، بحيث تقوم الإنتخابات، ويجري التحول
من نظام مستبد الى نظام أكثر حرية. وفي هذه الفترة يجري تعديل الدستور أو
تشكيله إن لم يكن موجوداً، ويتم تشكيل برلمان أو مجلس شورى منتخب، وتوضع الحدود
الفاصلة بين (الشعبي) و (الرسمي)، وتؤطّر صلاحيات القائمين على الحكم. وهنا قد
تقف التحولات عند أعلى هرم السلطة مع إحالة بعض السلطات الى الجهاز التشريعي.
في هذه المرحلة تكمن الخطورة، إذ قد ينقلب النظام أو بعض أجنحته على التحول
السياسي الحرّ، خاصة إذا ما فشلت التوجهات الديمقراطية الوليدة في تثبيت
أقدامها، ومعالجة المشاكل الإقتصادية والاجتماعية والأمنية (مثال ذلك انقلاب
البشير في السودان).
أما المرحلة الأخيرة، فهي مرحلة ارتفاع الخطر، فمع مرور الزمن تتضاءل مخاطر
الإنقلاب على التحول السياسي، وتتوضح الخطوط السياسية للاعبين، ويقتنع اللاعبون
بها على مدى الزمن وأنها أفضل (الموجود).
في ظل عدم وجود حرية تعبير، لا يتوقع أي انفتاح سياسي في المملكة، حتى مع وجود
(نظام سياسي/ شبه دستور) و (مجلس شورى معيّن) و (نظام مقاطعات لا مركزي)، حتى
إذا افترضنا وجود هذه الأمور ممتازة على الورق (وهي بنظر العديدين ليست كذلك)
فإنها لا تفيد كثيراً، ولا يمكن تطبيقها، لأنها تفتقد الآلية والإشراف الشعبي،
تماماً مثلما هو حاصل الآن في المملكة وفي غيرها من الدول. حتى مع القول ان هذه
المؤسسات أو المشاريع القائمة يمكن تطويرها، فإن ذلك سيكون مستحيلاً بدون توسيع
قنوات التعبير عن الرأي.
هناك أسئلة ملحّة كثيرة في هذا الشأن، منها: لماذا تعطى أهمية في الأساس
للإنفتاح السياسي كواحد من مجموعة الأدوية لعلاج التأزم الأمني ونزع فتائل
العنف؟ ألا يمكن حل موضوع العنف بوسائل أخرى أقلّ كلفة من الناحية السياسية؟
لماذا تكون المملكة وحدها بين دول الجزيرة العربية في آخر ركب التغيير
السياسي؟.
من الناحية الفعلية، المملكة هي أقلّ دول الخليج والجزيرة العربية في تقديم
الحدود الدنيا من حق حرية التعبير لمواطنيها، وهي بالتالي الأقل أيضاً في مجال
الحريات السياسية، ويتبع ذلك أنها ـ حسبما نظن ـ تحتضن مخزوناً هائلاً من
التشنّج والعنف لم يجر التعبير عنه بعد إلا في الحدود الدنيا. يمكن للجهاز
الأمني القول بأنه يمكن التعاطي مع هذا المخزون العنفي ـ إن كان موجوداً بالفعل
ـ بوسائل أمنية وقائية استباقية أو بعد حدوثه، كما هو حاصل الآن. من يعتقد بهذا
الحل، إن كان يراه حلاً وحيداً، يجب أن يدرك بعضاً من الحقائق:
أولاً ـ لم يعد بالإمكان اليوم إلغاء دور المواطنين في تقرير مصيرهم، عبر
المشاركة السياسية أو على الأقل عبر التأثير على السلطة السياسية وتوجهاتها.
كما لا يمكن بأي حال قتل الطموحات السياسية للنخب (أياً كان تعريفها) فذلك
يستلزم تغيير الخلقة البشرية. أيضاً لا يمكن وقف الصراع على السلطة ولأمد بعيد
بوسائل القمع وحدها، أو عبر غرس قناعات (الحق الإلهي) أو (حق القوة: أخذناها
بالسيف) أو حكاية (ملك الآباء والأجداد). المفترض: هو تنظيم مشاركة الجمهور،
واستيعاب الطموحات، على الأقل ضمن الحدّ الممكن الذي لا يؤدي الى موت الذئب ولا
إفناء الغنم، أملاً في الوصول الى أكبر قدرٍ من الإستقرار السياسي، الذي يبعد
عن البلاد شبح المفاجآت غير السارّة، ويزيل عن الحكام هاجس الخوف.
ثانياً ـ إن التوسّع في استخدام العنف لا يحلّ المشكلة من جذورها، رغم كلفته من
الناحية الإنسانية، إذ لا بد أن يكون العنف متواصلاً زمانياً وشاملاً مكانياً
وحاداً في عمقه، ولا أحسب أن طبقة حاكمة يمكنها توفير مثل هذا النوع من الحل
لفترة طويلة، وقد تمّت تجربة هذا الحلّ في أماكن عديدة من العالم وفشل، وإلاً
لما قامت حكومات وسقطت دول. وأحسب أن أي حكومة تسعى بالفعل أن (تشرعن) نفسها
باستخدام القدر الأدنى من العنف ضد جمهورها، إذ قد يغيب عن الذهن أحياناً،
حقيقة أن التوسع في استخدام العنف يؤدي الى نقصان في (شرعية) الحكم. فهو ليس
مؤشراً على عدم الرضا الشعبي فحسب، ولكنه يفقد الحكومة قواعدها الشعبية، بحيث
يصبح تغييرها ضرورة ملحّة. وأقصى ما يفعله العنف الحكومي أو بالأحرى الحل
الأمني هو الاكتساح الظاهري للمشكلة، ولكنه يعمّقها في الوجدان الشعبي، فإذا ما
جاءت أي فرصة انقلب الناس على (أسيادهم) وبعنف. إن من أهم مقاييس (شرعية) أي
حكومة النظر الى حجم استخدامها للعنف ضد جمهورها ونخبه.
ثالثاً ـ إن التوسع في استخدام الحل الأمني، يأتي بردّ فعل عنفي مماثل، حيث
تنشط الحركات السريّة، وتتعمّق ثقافة التطرف بعيداً أن أعين السلطات، وتتجه
الأنظار الى الحلول الراديكالية (على شاكلة حلول الإستئصال الأمني الرسمي)
فتغيب عن ساحة المواجهة وجوه الإصلاح ودعوات التدرّج في التغيير. ومما لا شكّ
فيه، أن بعضاً من العنف السائد، يعود في جذوره الى عنف السلطات الأمنية، والى
تيبّس القنوات السياسية التي تضيق بالآراء والطموحات التي شهدت انتعاشاً غير
عادي خلال الخمسة عشر عاماً الماضية دون أن تلقى لها استجابة رسمية تذكر.
ولعلنا نقول بشيء من الإطمئنان، إن غياب دعوات الإصلاح السياسي على الصعيد
الشعبي، والتي ظهرت أولى آثارها في بداية التسعينات، أمرٌ يدعو الى القلق، لا
بالنظر الى أن تلك الدعوات كانت طارئة أو زوبعة في فنجان، كما يتصور بعض
المحللين، بل لأن العنف ثقافة وممارسة تصاعد منذ ذلك الحين، الرسمي منه وغير
الرسمي. فالقمع قضى على التعبيرات الظاهرية لتلك الدعوات، او لتلك الحاجة
الماسة للتغيير السياسي، ولكنه لم يحل دون انتشارها وتصاعد الشعور بالحاجة
إليها على الصعيد الشعبي، وقد يعبّر عن ذلك في بعض المناسبات، كما ظهر مثلاً في
الكتابات الصحافية المحلية إبّان التعاطي مع التحول السياسي الذي شهدته البحرين
منذ بضعة أشهر، إذ كيل المديح لخطوات الإنفتاح السياسي والإعلامي الذي تبناه
أمير البحرين بشكل يفيد: (إيّاك أعني واسمعي يا جاره).
رابعاً ـ إن الحلّ الأمني يكون فاعلاً ضمن الإطار القيمي والمعياري لدى
المجتمع، وهذه القيم لم تعد اليوم قادرة على الضبط الإجتماعي للأجيال الجديدة،
التي تشكل أكثر من نصف السكان. فضبط القبيلة عبر شيخها، أو الشاب والشابة عبر
العائلة وقيمها، والمتدينون عبر مراجعهم الدينية، والجمهور عبر الشخصيات
الإجتماعية، أمر لا يمكن التعويل عليه كما في الماضي. فالأجيال الجديدة وإن
تعصّبت لمذاهبها ومناطقها وقبائلها، فإن تعصبها تعصّب (هويّة) لا يحمل معه
بالضرورة رضوخاً لمعايير القبيلة وقيم العائلة والى قيم في المجتمع كانت في يوم
ما سائدة. الأجيال الجديدة تستعصي على الضبط بالعصا، لا تؤثر فيها (إخافة
الآباء والأجداد) ممّن شهدوا أو سمعوا بصنوف العنف، ولا هي استنفعت بالطفرة
النفطية لأنها ولدت أو تشكلت أفكارها وتوجهاتها بعد انتهائها فليس لديها شيئاً
تخسره، وهي تحمل روح تحدّ ومناكفة غير عادية، وتتعرض لضغوطات ذهنية وفكرية
فرضتها وسائل الإتصال، وتلعب المقارنة بين بلدهم والبلاد المجاورة دوراً في
تعزيز نقمتهم على أوضاعهم. وبالتالي فإن الحل الأمني، حتى وإن جرى التوسّع في
استخدامه، لن يكون ـ على الأرجح ـ ناجعاً دون وجود منظومة (قيم) (ومعايير)
سلوكية جديدة تتولّى الضبط، تكون مقبولة بمعنى حاكميتها على العموم وتتماشى
جنباً الى جنب مع آلة العنف.
خامساً وأخيراً ـ إن الحلّ الأمني يخنق البلاد برمّتها، حاكميها ومحكوميها. إنه
يختطف مستقبل أجيالها، ويشلّ حركة الإبداع والتطوّر فيها في شتى المجالات.
وكما رأينا فإن الحل الأمني الذي يستهدف في الأصل عدم تقديم تنازلات سياسية، هو
بحد ذاته حلٌّ مكلفٌ من الناحية السياسية، أي أن النظام يدفع ثمن عدم التغيير
من (شرعيته) ومقبوليته لدى قواعده الشعبية.
3 ـ الإنحدار السريع للأوضاع الإقتصادية، والنهاية المتوقعة للدولة الريعية
الربط بين تدهور الأوضاع الإقتصادية وتدهور الأوضاع الأمنية، من جهة تزايد
معدلات الجريمة أمرٌ مألوف في الأبحاث السياسية والإجتماعية. كذلك فإن الربط
بين تدهور الأوضاع الإقتصادية من جهة ومجريات الأحداث السياسية وأيضاً تطور
النظم السياسية أو انهيارها صار من البديهيات السياسية. ولا نأتِ هنا بجديد في
هذا الأمر. لا نستطيع أن نفصل الموضوع الإقتصادي وآثاره السلبية أو الإيجابية
على الحالة الأمنية وحدها دون النواحي السياسي.
من سوء حظ المملكة أن تراجع الأوضاع الإقتصادية جاء بشكل سريع في وقت بلغت فيه
قمة رخائها، فسبب ذلك إرباكات نفسية وسياسية واجتماعية لاتزال تحفر جذورها
عميقاً. يقال بأن عدداً من الثورات، وبينها الثورة الفرنسية والأميركية، جاءت
بعد فترة زمنية طويلة من الرخاء والإستقرار الإقتصادي، وقد أدّى الإنكسار
الإقتصادي المفاجئ الى إشعال ثورات أطاحت بالنظم القائمة. وتعود كثير من
التحولات السياسية في العالم الثالث من انشقاقات وحركات انفصال ومظاهرات خبز
الى عوامل مختلفة ولكن العامل الإقتصادي هو الطاغي بينها. لقد أدّت هشاشة الوضع
الإقتصادي في الأردن أواخر الثمانينات الى مظاهرات وصدامات قادت الى تحوّل
ديمقراطي (جزئي طبعاً)، كذلك الأمر في إندونيسيا حيث أُطيح بسوهارتو، كما أُطيح
بعدد من الديكتاتوريات في مناطق متعددة من العالم الثالث.
في المقابل، فإن كثيراً من الحكومات المدنية يطيح بها العسكر أثناء مراحل
الانهيار او التراجع الإقتصادي، كما حدث تكراراً في دول جنوب شرق آسيا، حيث
يبقى العسكريون في السلطة طالما كانوا قادرين على توفير النجاح في هذا الجانب
بالتحديد.
غير أن المسألة قد تكون أعقد من ذلك في بلدٍ كالمملكة، فالقاعدة، ولكل قاعدة
شواذ، أن التطور الإقتصادي الإيجابي يقود الى إصلاح سياسي وتطوير في المؤسسات
السياسية وزيادة المشاركة الشعبية. فوجود الثروة علامة على إمكانية (سريعة
نسبياً) لتحصيل نوع من الإنفتاح السياسي والديمقراطية. فللإزدهار الإقتصادي
علاقة وثيقة بالتطور السياسي الإيجابي، ولذا نرى أن أغلب الدول الديمقراطية هي
أيضاً دول غنية. فهل قاد غناها الى تطور في بنائها السياسي؟ أم كان تطور بنائها
السياسي قادها الى الإزدهار الإقتصادي؟.
هناك نظرية تقول بأن الغنى صنو الديمقراطية، صنو التعددية الثقافية والسلم
الإجتماعي. فغنى الدولة والأفراد يعني تطوراً في التعليم والثقافة والفكر، وهذا
يقود بنحو أو آخر الى المطالبة بالإصلاح السياسي. كما أن الرخاء الإقتصادي يجعل
المواطنين أقلّ ميلاً لاستخدام العنف، ويجعل السلطات بالمقابل أقلّ عدوانيّة.
كما أن التطور الإقتصادي يوسّع قاعدة الطبقة الوسطى التي تعتبر حاضنة للتغيير
السياسي.
ولكن.. وكما قلنا، لكل قاعدة شواذ! الهند ديمقراطية مع فقرها، في حين أن الصين
الديكتاتورية تشهد ولسنوات عديدة نمواً اقتصادياً هو الأعلى بين دول العالم
قاطبة. قد يفرض الفقر والتراجع الإقتصادي تحولاً نحو التغيير السياسي، وقد يكون
الغنى ـ كما كان في المملكة ـ أداة لتعويق التطور السياسي، شأنها في ذلك شأن
عدد من الدول الريعية التي تعتمد في دخلها الأساسي على مصادر غير مملوكة لأشخاص
أو شركات، وتستخدمها الدولة في برامجها الإجتماعية والإقتصادية. فالمال كما
أثبت في المملكة، قد يكون بديلاً، ولو مؤقتاً، عن التغيير السياسي والمشاركة
السياسية.
وسنوات الوفرة المالية كانت قادرة على امتصاص بعض التشنّجات لدى الأفراد
والجماعات والمناطق (مع ملاحظة أن التحديث السريع كانت له آثاره السلبية
أيضاً).
وكان المال قادراً الى وقت قريب، وربما لازال في المجمل، على (تجبين) النخب كما
الأفراد العاديين، من خلال الإستيعاب المتواصل في الجهاز البيروقراطي الحكومي
(التوظيف) ومن خلال تلبية الطموحات المادية لدى الأفراد.
أيضاً أدّت الوفرة في المملكة الى أمرين مهمين: توسيع سلطان مؤسسات الدولة
وانتشارها، وتقوية جهازها الأمني والعسكري.. وتوفير قاعدة أخرى لشرعية النظام
السياسي الذي حقّق قدراً من الرخاء على قاعدة (شرعية الإنجاز المادي).
كل هذه الأمور أصابها الإهتزاز بفعل تقلّص إيرادات الدولة. لن تعود الدولة
الريعية كما كانت حتى مع زيادة المداخيل النفطية، ولن تكون الدولة قادرة على
توفير التعليم الجامعي بشكل كاف، ولا على بناء مدارس كافية، كما لن تستطيع
توفير الوظائف ضمن القطاع الحكومي، فعملية الإستيعاب في الجهاز الوظيفي الحكومي
لها حدود لا يمكن تجاوزها، وإن كان ذلك لا يعفي مؤسسات الدولة من مسؤوليتها في
توفير وظائف لمواطنيها. أيضاً، فإن النتائج المترتبة على هذا كلّه، بما في ذلك
تقلص الخدمات الصحية وتراجع مستواها، الى الخدمات الإسكانية، والمواصلات،
وزيادة الرسوم (الضرائب)، وما أشبه، لا بد وأن تترك آثاراً حادة على معدلات
الجريمة والعنف، الأمر الذي يشكّل تحدياً لشرعية النظام السياسي حتى بين قواعده
التقليدية.
بالرغم من حقيقة وجود خيارات عديدة لتقليص آثار الأزمة الإقتصادية، إلاّ أنها
خيارات تستدعي إجراء عمليات جراحية في هيكل الدولة البيروقراطي، ليس لدى
القائمين عليها الآن الشجاعة الكافية، وربما القدرة، على طرقها. فمداخيل الدولة
لا تزال معقولة رغم انخفاضها عن معدلاتها القديمة، وهي كافية لتجميد المشكلة
الإقتصادية إن لم نقل البدء بحلها. ولكن مشاكل الفساد الإداري، وهدر الأموال
العامة تجري على قدم وساق رغم الضائقة الاقتصادية. ولم تؤدّ تلك الضائقة الى
إعادة النظر في الأولويات من جهة المصاريف، فلا زال الجهاز الأمني والعسكري
يستقطعان أكثر من نصف دخل البلاد.. وإذا كان هناك من تبرير للصرف على الجهاز
الأمني الداخلي المتضخم، فليس هناك من مبرر مقنع للإستمرار في الصرف على شراء
الأسلحة، وعلى جيش لا يتجاوز عدده المائة ألف شخص.
في هذا الإطار يمكن أيضاً ذكر مصاريف العائلة المالكة التي لا يعلم حجمها، ولكن
المواطنين ـ صحيحاً قالوا أم خطأ ـ يشيرون إليها كسبب رئيسي وربما (الرئيسي)
وراء المشكلة. إن عدم القدرة أو عدم الرغبة في ضبط مثل هذا النوع من المصاريف،
لا يفضي فقط الى اتهام الجمهور للقائمين على الدولة بالفشل في الإدارة، بل يميل
الى اتهامهم (بخيانة) الأمانة أيضاً، ومثل هذا المنحى في التفكير لا بدّ وأن
يترك آثاره على شرعية الحكم. وكلما اشتدّت الأزمة أُلقي باللوم على المسؤولين،
فالذي حصد وحده المديح على قاعدة تحقيق الإنجاز، يحصد وحده مسؤولية الإخفاق
بنظر العامة.
في سنوات الرخاء الإقتصادي النسبي، كانت أعين الجمهور مغمضة عن كل الأخطاء، وعن
الحقوق السياسية.. ولكن في حال التراجع والإنتكاس، لا تبق الأعين مغلقة،
والعقول تبحث عن جهة تعلّق عليها أسباب الفشل، خاصة بالنسبة للأجيال الشابة
التي خسرت وتخسر مستقبلها التعليمي والوظيفي. وإذا كانت النافذة السياسية مغلقة
أمام الجمهور في سنوات الطفرة، فإنه من شبه المستحيل اليوم أن تغلق جنباً الى
جنب الأبواب الإقتصادية دون حدوث أزمة. أي لا يمكن ضبط المواطنين في جو
المعاناة الإقتصادية بمنع التنفيس السياسي. وحتى الآن لا تظهر أية مؤشرات على
أن هناك نيّة في توسيع القنوات السياسية لتلافي بعض مشاكل الإحباط الإقتصادي.
وهذا يعني فيما يعنيه الإعتماد على الحل الأمني لمواجهة المشاكل القادمة، طالما
أن لا أُفق في المدى المنظور لحلّ مشاكل التوظيف والتعليم والصحة وغيرها. وقد
يرى الجهاز الأمني نفسه مدفوعاً للتوسّع في استخدام القوة حتى لا تذهب (هيبة
الدولة) أدراج الرياح.
لقد تمّت خلال السنوات الماضية عمليّة (تسييس) السخط الإجتماعي بصورة تدريجية
رغم عدم وجود أحزاب أو منظمات سياسية تستثمرها، ولعلّ حادثة اختطاف الطائرة
السعودية الى العراق وتصريحات المختطفين تنبئ عن ذلك، وتوضّح في أجلى مضامينها
انعكاسات الوضع المعيشي على الحالة الأمنية ومستوى العنف السياسي وغيره.
لا بدّ هنا أن نفترض إحتمال قيام المسؤولين وبمبادرة منهم التقاط نبض الشارع،
والتناغم معه بقدر ما، والسير باتجاه الإصلاحات مهما كانت قاسية ومؤلمة. يأتي
في هذا السياق، قدر ملحوظ من التحسّن طرأ على وسائل الإعلام المحلية، كالصحافة
السعودية أو بعضها (جريدة الوطن والى حد ما عكاظ والرياض) في مجال التعبير عن
القضايا الوطنية. وفي المجال الإقتصادي، جاء تشكيل المجلس الأعلى للإقتصاد،
والذي لم يرَ المواطنون حتى الآن آثار عمله إيجابياً، مع افتراض أن لديه قدراً
معقولاً من الصلاحيات. بيد أن الإحتمال الإصلاحي من داخل النظام فيما لو حدث
يستدعي تساؤلات سريعة منها: هل تكون الخطوات الإصلاحية حقيقية، تستطيع استيعاب
حجم السخط الشعبي، أم تكون ضئيلة لا تستطيع القنوات استيعابه؟ ثم هل تبقى أدوات
التنفيس للإحتقان السياسي والإجتماعي، ضمن الحدود المرسومة لها، أم تولّد مطالب
أخرى؟ وأخيراً هل يكون الرابح من ذلك (الوطن) أم الفئوية والطائفية والمناطقية
والقبلية؟
4 ـ التأثيرات الخارجية للعنف الداخلي
صحيح أن المملكة لا تستطيع ان تكون بمنأى عن التأثيرات الخارجية فيما يتعلق
بالجريمة والعنف وتهريب المخدرات وما أشبه. التبريرات الرسمية للتفجيرات تشير
دائماً الى هذا العنصر، مع إغفال خجول لعناصر التوتر الأخرى. وهذا يتناغم بشكل
ما مع تضخّم الهاجس الأمني الخارجي الذي لازم المملكة منذ تأسيسها، فهي مسكونة
به الى حدّ بعيد. لكن ما يثير الإنتباه، هو التبرير المعاكس تماماً حين يتعلق
الأمر بموضوع الإصلاح السياسي. لماذا لا يكون لدينا برلمان منتخب مثلاً؟ يأتي
الجواب: لأن شعب المملكة له خصوصيات مختلفة. إذا كانت البلاد وشعبها يتأثرون
بالخارج، فإنه سيأخذ الوجهين: السلبي منه والإيجابي. أو السلبي (والسلبي)
أيضاً، من وجهة نظر البعض، بافتراض أن إقرار الحريات العامة، والتأثر بتجارب
دول الجوار بالأخص هي مسألة سلبيّة.
يمكن تلخيص التأثيرات الخارجية على العنف المحلي في أمرين:
المحور الأول: انعكاسات السياسة الخارجية على الوضع الأمني المحلي، فالعلاقة
المتميّزة مع الأميركيين ووجود قواتهم في البلاد، واستخدام طائراتهم الأراضي
والأجواء السعودية، ينتقص الكرامة الوطنية والدينية ويحفّز بعض المجموعات أو
الأفراد على استخدام العنف ضدهم. وكانت الصحفية الأميركية روبن رايت قد علّقت
على انفجار العليا ضد الأميركيين بالقول أن الأخيرين كانوا مجرد تبرير وضحية
لصراع جماعات مسلحة ضد الحكومة السعودية. ربما يكون هذا صحيحاً، فحتى الآن لم
يستهدف العنف منشآت حكومية خاصة، وإن كانت التفجيرات بما فيها تفجير الخبر
تستبطن إدانة للنهج السياسي الخارجي.
مثال آخر هو العلاقة مع أفغانستان. فمن أجل محاربة الشيوعية، وإبراز نموذج حكم
ديني مقابل النموذج الإيراني (المعادي يومها) دفع بالمملكة لتجنيد قواها في دعم
المجاهدين. في الميدان البشري، يلاحظ أن معظم إن لم نقل كلّ اولئك الذين
التحقوا بمعسكرات الأفغان لمحاربة الشيوعيين، ينتمون الى مدرسة دينية محددة،
وهم في أكثرهم من منطقة واحدة. ألا يستدعي هذا تساؤلاً حول موضوع (ثقافة العنف)
السائدة؟ وحين ارتدّ الأمر الى الداخل، صار مجاهدو الأمس متهمين بالجملة،
ولازال هؤلاء أنفسهم ضحايا في كلتا الحالتين، يتعرضون للإعتقال والإستجواب في
كل مرّة يقع حدثٌ عنفي. وجاءت أحداث 11 سبتمبر وموقف المملكة منها ومن الهجوم
على أفغانستان وما تبعه من مقتل المآت من السعوديين لتثير الشارع على الحكومة
وعلى الأميركيين، ولتجعل من أفغانستان بوابة مفتوحة في المستقبل المنظور لتعكير
الوضع الأمني الداخلي. أيضاً ينبغي التذكير بأن تصاعد الإنتفاضة الفلسطينية
ومبادرة الأمير عبد الله لتطبيع العلاقات مع اسرائيل وعجز الدول العربية وفي
مقدمتها المملكة عن فعل شيء يوقف الدم الفلسطيني .. كل هذا يهبط بشرعية الحكم
الى أدنى مستوياته ويهيج الشارع المتحفّز للتظاهرات ضد الحكومة والأميركيين على
حد سواء.
المثال الثالث والأخير هو إيران، فبعد سقوط الشاه، انتقلت تأثيراتها المعنوية
الى الوسط الشيعي في شرق المملكة الذين يعاني من مشاكل التمييز الطائفي. غير أن
أجهزة الأمن تعتقد بأن المشكلة (خارجية) ولم يتم التعاطي بجد مع جذور المشكل
المحلية. هاهي العلاقات تعود اليوم طبيعية مع إيران، والمشكلة على حالها، لأنها
وجدت قبل قيام الشاهنشاهية في إيران وليس فقط قبل قيام الثورة فيها. لكن ينبغي
الإلتفات دائماً الى أن النظم الثورية تنقل تموجاتها دائماً الى الداخل، حدث
هذا مع مصر عبد الناصر ومع عراق البعث في سنيّه الأولى، ومع الثورة في اليمنين.
المحور الثاني: التأثيرات الإيجابية. فالتجربة البرلمانية الكويتية كانت شديدة
الحضور في البلاد منذ الستينات، وهو ما دفع بالمملكة لتضغط على الكويت (وعلى
البحرين لاحقاً) لإنهائها. ومثل هذا التجارب التي تكاثرت دولياً وإقليمياً منذ
أواخر الثمانينات لا بدّ وأن تحدث آثاراً على المواطنين. حينما يشاهد المواطن
إمرأة يمنية أو عمانية تنتخب، أفلا يثير ذلك لديه بعض الأسى؟ وحين يقرأ الصحافة
في الكويت او قطر أو البحرين: ألا يبتئس وهو ينظر الى ما يقدّم إليه من (علف)
(والتشبيه هنا للأستاذ الوزير إياد مدني الذي طالب ذات مرّة بمساواة الصحافة
المحلية بالعلف الحيواني من حيث الدعم الحكومي)؟ وحين يشاهد شاشة التلفاز
السعودي، هل يستطيع أن يقاوم إغراء الفضائيات الخليجية وغيرها؟ وحين يستمع
للمواضيع الدينية في القنوات الأخرى، هل يقرب البرامج الدينية المحلية؟ لقد
أظهرت التجارب الإعلامية والديمقراطية بؤس الآلة الإعلامية السعودية، وبؤس
النظام السياسي نفسه. وليس من الصعب على المواطن عقد المقارنات وهي أول خطوة
للتذمّر والسخط.
في ظل شياع ثقافة حقوق الإنسان، وصناديق الإقتراع، وحرية التعبير، وتوفر
البدائل الإعلامية، لم تعد الحكومة تمتلك دفّة التوجيه الأخلاقي والديني
والسياسي، ويكفي التدبر في هذه النتيجة للإعتبار، مع ملاحظة أن الأجيال الجديدة
غير مؤطّرة ثقافياً وسياسياً ووطنياً، أي أن لديها الإستعداد لتقبّل شتى أنواع
التوجيه الخارجي. وإذا ما سقط النموذج السعودي في المجالين الإعلامي والسياسي
وحتى في تجربته التنموية، فما هي الآثار النفسية والعملية المترتبة على ذلك؟
كيف سينظر الفرد السعودي الى مواطنته، والى حكومته، والى شعبه؟ أي نموذج يرى
فيه حلمه وتطلعاته وآماله؟ وإذا انسدّت آفاق تلك التطلعات، ما عساه يصنع أكثر
مما يصنّع أصناف المحبطين: الإنطواء، او الجريمة، أو الإلتحاق بجماعات العنف
السياسي من أجل التغيير.
أشكال العنف المتوقعة
خلال العقدين الماضيين تقريباً، شهدت المملكة عدّة أشكال من وسائل الإحتجاج
المسموح وغير المسموح بها. المسموح به معلوم، ويتلخص في (الشكوى والإعتراض)
الفردي في الغالب، الى المسؤولين عبر اللقاء المباشر إن أمكن، أو عبر الرسائل
والبرقيات. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية تذمّراً رسمياً يصل الى حد المنع
من إرسال الرسائل الجماعية، أو بعث الوفود التمثيلية لملاقاة المسؤولين.
فالتوجّه السائد هو التعاطي مع المشاكل الشخصية، وعبر إمارات المناطق وليس
المركز. وهناك كما يبدو تشديد كبير يصل الى حد التهديد بالإعتقال في حال قام
وفد من منطقة ما وسافر الى الرياض دون علم (وموافقة) من أمير المنطقة، ففي
الغالب يستدعى أعضاء الوفد ويحذّرون. فالمشاكل العامّة أو الشأن العام، من وجهة
نظر بعض المسؤولين على الأقل، لا حق لأحد التعاطي معها غير الجهات الرسمية،
التي تحرص أن لا يتشكّل همّ جمعي حول أي موضوع. من محاسن الصدف، أنه فيما نظن،
ولأول مرّة في تاريخ المملكة الحديث ينشأ حسّ جمعي تجاه مشاكل محددة، يعاني
منها الجميع دون استثناء، ونقصد بذلك الآثار السلبية المترتبة على الأزمة
الإقتصادية والتي وصلت الى كل الشرائح الإجتماعية وكل المناطق.
أما غير المسموح به فاتخذ أشكالاً متعددة، أولها ما جرى في نوفمبر 1979، من
(عصيان مسلّح) في مكّة قام به جهيمان العتيبي في الحادثة المعروفة والمشهورة.
وفي نفس الوقت حدث (عصيان سلمي) عارم (مظاهرات وإضراب عن العمل) في المنطقة
الشرقية، ترافق مع قدرٍ غير قليل من الشغب، حيث أُحرقت بعض السيارات والمرافق
وسقط العشرات من الضحاياً (قتلاً وجرحاً).
في بداية التسعينات ظهر نوع جديد من وسائل الإحتجاج، عبر العرائض الشعبية،
والتي لم تكن جديدة في حدّ ذاتها فقد استخدمت على مدى عقود متواصلة من قبل
المواطنين الشيعة، لكن ما ميّز هذه أنها حوت مطالب سياسية واضحة، وقد ترافق
معها قيام بعض التجمعات في المساجد وخارجها، ومع تطوّر الأمور حدث ما يشبه
التظاهر السياسي في بريدة وقت اعتقال الشيخ سلمان العودة، كما وقعت حوادث عنف
تجاه بعض المعذّبين في السجون. في نفس الفترة لا ننسى مظاهرة النساء وهنّ يقدن
سياراتهن.
في النصف الثاني من التسعينات وقعت أعمالاً عنفية منظمّة: تفجيرات. أهمها
إثنان: انفجار العليا في 1995 وانفجار الخبر في 1996. ثم جاءت تفجيرات في
الأسواق العامة، وتلتها محاولات اغتيال لأجانب غربيين في الرياض والخبر. وعلى
الصعيد المحلّي حدث نوعان من الإحتجاج: أولهما انفجار الوضع في نجران، ومحاصرة
أميرها، واندفاع جماهير من المدينة بأسلحتهم لمواجهة القوات الحكومية، دفاعاً
عما يعتبرونه حقوقاً دينية جرى تجاوزها، واحتجاجاً على تصرفات الأجهزة الأمنية
في التعرض والإعتداء على مساجد الإسماعيليين وشخصياتهم الدينية. والثاني قيام
تمرّد في أحد سجون تبوك، وهذه أول حادثة تقع في تاريخ المملكة الحديث على حد
علمنا.
أضف الى هذا بضع حوادث شغب، تقع أثناء التجمّع من أجل التقدّم لوظائف حكومية.
حدث هذا في الرياض ومات بعضهم، وحدث في الدمام الأمر الذي استدعى إرسال فرق
الأمن.
أمّا الطلبة في الجامعات، فقد تظاهروا داخل حرم جامعة الرياض عام 1994 وقاموا
بأعمال شغب احتجاجاً على قرارات صادرة من مسؤولي الجامعة، وتشير الأنباء الى أن
كثيراً من ممتلكات الجامعة تتعرض للتخريب المتعمّد كوسيلة من وسائل الإحتجاج.
وأخيراً وليس آخراً، حادثة اختطاف الطائرة السعودية الى العراق من قبل شابين
كانا يعملان في جهاز الأمن السعودي نفسه، تلتها محاولات تظاهر في عدد من مدن
المملكة في الأسابيع الأولى لاندلاع الإنتفاضة الفلسطينية، وها هي تتكرر الآن
بصورة حادّة خاصة في مدن المنطقة الشرقية حيث تمت مواجهتها بخراطيم المياه
والهراوات وإطلاق الرصاص المطاطي إضافة الى الإعتقالات.
ما يمكن استنتاجه من هذه اللمحة السريعة، هي ان البلاد معرّضة لكل أنواع العنف
بدون استثناء، خاصة مع الأخذ بعين الإعتبار توافر السلاح بكميات هائلة، بعضه
كان من آثار حرب تحرير الكويت، وكثير منه اليوم من مخازن الجيش والحرس الوطني.
النتيجة الثانية أن هذه الأحداث أخذت صفة الإستمرارية، أي أنها حالة شبه
مستوطنة، وأن جذور العنف والإحباط والسخط لاتزال مستقرّة في جذورها في الداخل
وليس الخارج السعودي.
إن محاولة استقراء المستقبل لتحديد أشكال العنف السياسي والإجتماعي المتوقعة
تستلزم استقراء ثلاث دعائم: أولها: سياسات الحكومة المتعلقة بالإصلاح الإجتماعي
والسياسي والإقتصادي ومقدار نجاحها في توفير الظروف الملائمة والبيئة المناسبة
للسلم المجتمعي الداخلي. فحجم العنف ونوعه يعتمدان على مقدار النجاح المتوفر في
إزالة جذور المشكلة التي استعرضناها في صفحات سابقة. وثانيها: في طبيعة الردّ
الأمني، سواء استخدم كعنصر مساعد في الحلّ، أو كعنصر وحيد له. ذلك أن طبيعة
الردّ الأمني تفرز نوعاً مختلفاً من العنف من حيث الإستجابة له. وثالثاً: طبيعة
المجتمع السعودي المختلفة في الثقافة والمذهب والقبيلة والمنطقة، فالقوى
الإجتماعية المختلفة تفرز أنواعاً مختلفة من العنف، حسب خصوصياتها، وحسب نوعية
وحجم التحديات التي تواجهها.
فيما يتعلق بالدعامتين الأوليتين، تبدو السياسات المتّبعة أكثر ميلاً للحلول
الأمنية، مع محاولة بدائية لتلمّس المشاكل الإقتصادية بنحو خاص. غير ان الحلول
المتّبعة في المملكة في غالب الأحيان، تميل الى (منهج المسكّنات) أي الحلول
السطحية المؤقّتة، ربما نظراً لكلفة الحلول الجذرية، أو عدم القدرة الفعليّة
ضمن الحسابات داخل دائرة الحكم على حسمها. كل ما هو موجود من مشاكل وقضايا لم
توضع له حلول جذريّة وخطط للحل تستلزم سنوات قادمة. يجري في العادة ترحيل
المشاكل الى (المستقبل) بمجرد أن تهدأ على السطح بفعل (المسكّنات) فإذا ما
انتهى مفعول المسكّن، أضيف إليه (مسكّن) جديد، حتى أن بعض القضايا مضت عليها
عقود عديدة ولا نقول سنوات قليلة. من بين المسكّنات مثلاً، مجلس الشورى نفسه،
والنظام الأساسي ونظام المقاطعات، والإعلان عن عزم الحكومة تشكيل لجنة (حقوق
الإنسان). ورغم أن المرء لا يسعه إلا أن ينظر بإيجابية الى هذه الأمور، إلاّ أن
الغرض من إعلانها لم يكن البحث عن حلّ لمشكلة أو حتى الإعتراف بوجودها، وإنما
إخراس الألسن: فهاهو أمامكم مجلس ودستور ولجنة حقوق الإنسان مثلما لدى كل
الدول، الديمقراطية منها والمستبدّة. لكن هل تحلّ هذه المؤسسات أو الأطر مشكلاً
حقيقياً؟ هذا أمرٌ مشكوك فيه، فقد أصبح المجلس كعدمه تقريباً، ومجالس المقاطعات
لا دور لها على الإطلاق، والدستور لا يستفاد منه إلا بالإشارة اليه في الأوامر
الملكية، وهكذا.
أمّا الإعتماد على الجانب الأمني وحدود استخدامه فهي مفتوحة الى أقصى حدّ، وقد
برهنت ردود الفعل الحكومية على الأحداث التي أشرنا اليها آنفاً على ذلك. فأحداث
مكّة العنيفة، ووجهت بعنف أكبر (دبابات وطائرات) وغيرها. وإذا أُمكن تبرير في
مواجهة العصيان المسلّح لجهيمان وجماعته، فكيف يتم تبرير استخدام ذات القدر أو
أكثر منه في مواجهة العصيان السلمي في المنطقة الشرقية، الذي لا يعدو مظاهرات
وبعض الشغب. كيف يمكن تبرير استخدام كل أصناف القوى البرية والبحرية والجوية
إضافة الى الحرس الوطني للسيطرة على الأوضاع؟ الأمر الذي أفضى الى قتل أبرياء
برصاص الطائرات داخل منازلهم أو في طريقهم لأعمالهم. والى هذا اليوم لم يعتذر
لأهالي الضحايا ولم يعوضوا مادياً. في أحداث نجران الأخيرة، أُنزلت الدبابات
والمصفّحات الى الشوارع للسيطرة على الوضع، وبقيت هناك مدّة من الزمن. في
انفجاري الخبر والعليا، تمّ اعتقال المئات في كل المناطق ومن مختلف الشرائح.
وقد وجدت أجهزة الأمن فرصتها لتصفية حساباتها ضد التيارات الفكرية والسياسية
دون أن تقبض ـ فيما يتعلق بانفجار الخبر ـ على الفاعل الرئيسي حتى هذه اللحظة
رغم مرور سنوات عديدة ووجود مئات المعتقلين في السجون، الذين لم يحاكموا
فيدانوا أو يطلق سراحهم إن كانوا أبرياء. كما لم تسمح هيبة أجهزة الأمن المتعمد
إثباتها في الإعتراف بالفشل في القبض على الفاعلين، لأنه كما أُعلن (لا يوجد
لدينا حوادث تسجّل ضد مجهول).
إذا كان الخروج في مظاهرة يكلّف المرء حياته، فإنه يتردّد في الخروج، لأن الثمن
الذي يدفعه غالياً، ومع هذا وجد من بين الجيل الشاب المتحفّز من فعلها مراراً
بسبب تصاعد الإنتفاضة في فلسطين.. ومع ذلك قد يقود عدم التظاهر للتنفيس
المحبطين الى التفكير في العنف الدموي وهم يدركون أن الثمن المدفوع مقابل الهدف
يستحق من وجهة نظرهم المغامرة.
وملخص القول، إن العنف الزائد وغير المبرر قبال الإحتجاجات السلمية ذات
المضامين السياسية كالمظاهرات، قادرٌ كما هو واضح وثابت بالتجربة في المنطقة
الشرقية على إخمادها لفترة تطول وتقصر حسب قسوتها، ولكن هذا العنف الرسمي يجعل
خيار الإحتجاج العنفي أكثر جاذبية وبنفس الثمن (القتل والإعدام من قبل
الحكومة). وهنا نشير الى انفجارات المنشآت النفطية والى المصادمات بالسلاح
والتي تلتها حالات الإعدام العلني للمعارضين. إذا لم تتساو العقوبة مع الجريمة
(أياً كان تعريفها حكومياً) وإذا تساوت العقوبة مع عدد مختلف من الجرائم من حيث
النوع والتأثير، فإن أعنفها سيكون أكثر جاذبية ومنطقية.
لماذا يعتقل المرء لبضع سنوات بسبب انتقاد الحكومة العلني، في حين أن بإمكانه
الإحتجاج بوسائل أخرى أكثر حدّة ويقضي نفس الفترة؟ إذا تساوت جريمة الكتابة
الناقدة في جريدة أو مجلة خارجية من اعتقال وتعذيب ومنع من السفر لسنوات طوال،
مع إدخال كتاب ديني أو فكري غير مرخص له، فأيهما يختار المرء؟ بل يمكن القول
أكثر من ذلك، إذا تساوت كلفة إصلاح النظام ببطء وتدرّج وفق قاعدة (لا يهلك
الذئب ولا تفنى الغنم!) مع إسقاطه بالعنف فأيهما يكون الإختيار الأفضل؟ نقول
هذا وأمامنا تجربة المعارضة في المملكة منذ سقوط الحجاز عام 1926 ونشأة الحزب
الوطني الحجازي، مروراً بالإخوان أواخر العشرينات، وتمرد قبائل بلي في الحجاز
في الثلاثينات وحركات المعارضة الوطنية والقومية في الخمسينات والستينات، الى
محاولات الإنقلاب العسكري المتكررة في الستينات والسبعينات، وانتهاءً
بالإسلاميين في السبعينات وحتى الوقت الحاضر، فإنها جميعاً (باستثناء الحركة
الإصلاحية الشيعية في سنواتها الأخيرة من منتصف الثمانينات وحتى 1993 حين حلّت
نفسها) لم تطرح هدفاً إصلاحياً ديمقراطياً، وكان البرنامج الوحيد اليها،
إنفصالياً أو/و تغييراً عنفياً، وليس هناك من تفسير منطقي وراء هذا كله إلا ما
كان يدور بخلد القائمين على تلك الأعمال أن ثمن (الإصلاح) كان يساوي ثمن
(الإقتلاع). لهذا السبب وغيره لا توجد في المملكة توجهات إصلاحية متبلورة لدى
النخب، التي كثيراً ما يتعجب نظراؤها في دول الخليج والعالم العربي عموماً من
(جبنها) وقلّة مبادرتها، لأنّ الجريمة السياسية غير معرّفة العقاب، وتحتمل كل
شيء. ولو عُلم مثلاً أن جريمة التظاهر محددة ببضع سنوات سجن، وأن جريمة إقامة
حزب سياسي معرّفة العقاب، لوجد الإستعداد لدى الكثيرين للقيام بعمل سياسي سلمي
ما وهم يدركون مسبقاً حدود الثمن الذي ينبغي عليهم دفعه. في غير هذه الحالة،
فإن الموجود على السطح على الأكثر هو لحركات العنف ولا توجد محطّات سابقة له،
من تشكّل سياسي ونقابي وتجمّع وتظاهر وإضراب ونشر وما إلى ذلك.
أما طبيعة المجتمع وتأثيرها على نوعية العنف الحكومي والعنف المضاد، فيمكن
القول بأن أجهزة الأمن لا تتعاطى بسواسية تجاه الجرائم السياسية فانتماءات
الفاعل الشخص أو المجموعة المذهبية والمناطقية والقبلية تؤخذ بعين الإعتبار
دائماً. ومن الطريف والمؤلم في آن، أن السلطات اعتقلت خلايا (يسارية) عديدة،
فكان نصيب القيادي النجدي في الحزب سنين أقلّ سجناً، من العضو العادي الشرقاوي
الشيعي. إن جريمة التظاهر في المناطق الشيعية أعلى كلفة منها في نجد وربما في
الحجاز، ففي الأولى تكون الإستجابة بمدافع الرشاش، وإذا تطوّر الأمر وتواصل،
يأتي التهديد بالقصف بمدافع الميدان، كما حدث بالفعل. أما في الحالات الأخرى،
فمن المحتمل أن لا تكون أكثر من الإعتقالات، كما في بريدة مثلاً. ولو أن الذي
حدث خلال النصف الأول من التسعينات في نجد، تكرّر في المنطقة الشرقية بين
ظهراني المواطنين الشيعة لكان التعاطي معه بقسوة أكبر. نقول هذا لا لاستعداء
الحكومة على أحد، ولكن لمجرد التمييز في طريقة التعاطي الحكومي الأمني، فيما
يتعلق بمسمى الجرائم السياسية أو العنف السياسي.
أما الجمهور، فقد يستثار في منطقة لقضية قد لا تحرّك ساكناً في منطقة أخرى. وقد
وجد وفي كل مناطق المملكة رغم اختلاف مذاهبها، أن مواضيع (الهوية الخاصة)
وبالذات الدينية منها تلقى استجابة فوريّة وتحدياً وربما عنفاً مباشراً. لعلّ
ما حدث في نجران مراراً وتكراراً مثال واضح. والأمر كذلك بالنسبة للمواطنين في
الشرقية، فما من شيء يثير السكان أكثر من المساس بمعتقداتهم الدينية، سواء كانت
هذه المعتقدات مما يتحمل النقد أم لا، فقد أضحت جزءً من الهوية الخاصة التي
يتعصّب لها ويجري التمييز الرسمي ضدهم على أساسها. وإذا ما قـُرأت (مذكرة
النصيحة) قراءة (سلفية مناطقية) فسنجد أن ما جاء فيها لا يخرج عن إطار الموضوع
الخاص، ولا يعني بالضرورة مناطق المملكة المختلفة. إن حدّة الإثارة، وتراكمها،
وطبيعة شخصية المواطن في كل منطقة، لها دور في تحديد شكل العنف المتوقع منها.
وفي كثير من الأحيان يبدو أن الأجهزة الحكومية، وبالنظر لخلفيتها الثقافية
المناطقية، تستطيع إدراك الحسّاس من الأمور فيما يرتبط بنجد، ولكنها ولذات
السبب غير قادرة على فعل الأمر نفسه في المناطق الأخرى، فهي تجرح وتدمي
المواطنين، ولكنها في نفس الوقت لا تشعر بما تفعل، ولا تتفهم كيف أن عملاً
صغيراً وربما تافهاً بنظرها يسبب مشكلة كبير الحجم غير متوقعة. وهناك من يضيف
بأن تلك الأجهزة لا تتعلّم أيضاً، فما حدث في نجران لم يكن الأول ولا الثاني
وربما لا يكون الأخير، فالأسباب واحدة، ومواطن الإثارة واحدة، والنتائج العنفية
المتوقعة هي ذاتها مع فوارق في درجات الحدّة.
في ظل غياب القنوات السياسية والنقابية والثقافية التي تستوعب التحولات
الإجتماعية وفي ظل تجريم التجمعات السياسية وكل وسائل الإحتجاج (السلمي) يمكن
توقّـع التالي:
أولاً ـ تكاثر خلايا العنف صغيرة العدد، فتقوم بأعمال التفجير والإغتيال
والإختطاف (مثال ذلك مختطفي الطائرة السعودية الى العراق). وربما يكون القائمون
على انفجاري الخبر والعليا من هذا النوع. شباب محبطون، يقررون عمل شيء يائس،
خاصة إذا توافرت الأسلحة والمتفجرات شراءً أو سَهُلت إعداداً.
ثانياً ـ تكاثر أحداث الشغب أثناء التجمعات المقررة سلفاً (الرياضية مثلاً) او
التلقائية كطوابير البحث عن عمل، فالمزاج العام يبدو وكأنّه يبحث عن أي متنفّس،
وقد تستثيره أدنى الإحتكاكات. وقد يحدث الشغب كاحتجاج تلقائي، على زيادة
الرسوم، أو انقطاع الكهرباء، أو زيادة أسعار المحروقات، أو أي أمرٍ عام آخر،
فتكون كالقشة التي تقصم ظهر البعير. والمقصود بالشغب (الإضطرابات العنيفة التي
يقوم بها حشد من الجمهور ينتابه شيء من الحيرة والقلق). وأودّ هنا التوقّف
قليلاً عند هذا الموضوع لاستكناه أبعاده المحتملة.
أحداث الشغب، بخلاف الثورات، ظاهرة تقع في كل البلدان الديمقراطية والتسلّطية،
أي أنها ظاهرة تتكرّر على الدوام ولا تختص ببلد دون آخر. وهي بالتالي لا تعبّر
بالضرورة عن فشل في شرعية النظام السياسي، كما هي الثورات، إلاّ إذا تكرّرت في
بلد ما بشكل مستمر؛ في مثل هذه الحالة فإن الشغب كما هو العنف الأهلي، يرتبط
بالأنظمة القهرية فحسب. فالشغب يحدث في الأغلب في المجتمعات التي تعتمد على
القمع في حفظ النظام العام([1]) ويمكن فهمها على أرضية (الشرعية) إذ يؤدي
انخفاضها الى المزيد من الشغب.
من حيث مقدار التنظيم، فإن الشغب يرتبط بالعفوية والتلقائية، ولا يرتبط في
الغالب بجهة منظمة له، فلا توجد عادة قيادة واضحة لمنظمي الشغب، وفي كثير من
الأحيان يقرر من في مقدمة التظاهرات مثلاً، أو أفراد في حشد الى اتخاذ قرار
بالمواجهة مع قوى الشرطة والأمن. ومما لا شك فيه أن الجمهور المشارك في الشغب
يتبعون عواطفهم وليس خياراتهم المنطقية، وهم في كثير من الأحيان ينتمون الى
فئات أقلّ تعليماً وأكثر حرماناً، ويتمتعون بعنفوان شبابي. أيضاً فإن المشاركين
في الشغب يتصرفون وفق أهدافهم الخاصة ولا يتمتعون بالإنضباط وغير متأثرين
بعقائد سياسية([2]). يقال دائماً، أن المتعلمين ينخرطون في أنشطة تآمرية (أي
سريّة ومنظّمة) يدفعهم في ذلك الرغبة في السيطرة على القوة السياسية بشكل
أساسي. أما المشاغبون ـ إن جاز التعبير ـ وخاصة المحرّضين فتحركهم نوازع محددة
في المجالين الإقتصادي والإجتماعي([3]). أي أن الشغب لا يستهدف عادة تغييرات
جذرية بنيوية في السلطة السياسية والنظام الإقتصادي، بل يكون ردة فعل محدودة
لقرار أو فعل حكومي محدد.
بيد أن الخطير في الشغب أنه قد يكون مجرد تمهيد لفعل أكبر، انتفاضة فثورة،
ويقود تالياً لتغييرات جوهرية سياسية. هذا يعتمد بشكل أساس على طريقة استجابة
النظام وقواه الأمنية له. لقد شهدت مصر مثلاً أحداث شغب متتالية في يناير 1952،
أدّت الى خسائر فادحة، تطوّر معها الشغب ليخلق مناخاً ملائماً للإنقلاب العسكري
في يوليو 1952. وحتى في العراق، فقد أدّى خنق التظاهرات ضد العدوان الثلاثي على
مصر، والإحتجاجات ضد حلف بغداد، إضافة الى أسباب أخرى الى انقلاب 1958 ضد
الملكية الهاشمية. حقاً، قد يكون الشغب مجرد بوابة صغيرة تفتح لتحدث تحولاً
شاملاً. إنها تقدم إشارات التحذير للنظم السياسية بأنها في وضع خطر. فما يعتقد
أنه هدف معتدل وغير سياسي للمشاغبين قد يتطوّر الى هدف جذري، وقد تتم قراءة
الشغب بصورة خاطئة، فتتحول الأعداد القليلة من المشاركين الى جماهير متعاظمة.
هكذا كانت شرارة الثورة في إيران، شتيمة صحافية للإمام الخميني تطورت فأشعلت
ثورة، ومقاطعة خطاب لتشاوشيسكو قادت الى ثورة في رومانيا، وشرارات الثورة في
أكثر الأماكن لا تعدو قضايا صغيرة كعداوة شخصية تحدث بعض الشغب فتستثمر وتتحول
الى لهيب حارق وعصيان سياسي شامل، على النحو الذي شرحه أرسطو في كتابه (The
Politics) والذي توجد له مصاديق عديدة في التاريخ المعاصر. هذا التطور من شغب
الى ثورة لا يحدث في الدول الديمقراطية، بل في الدول التسلطية التي تعيش
احتقانات مزمنة تبحث عن ثقب إبرة لتنفذ منها وتتوسّع.
من المحتمل جدّاً أن تستيقظ القوى السياسية المعتدلة والراديكالية النائمة من
سباتها أو المقموعة على أنغام توترات الشارع فتقرر أن وقت العمل قد حان. هنا قد
تعمد الى الإنخراط في الشغب أو تشجعه لتحقيق ثلاثة أهداف: لزيادة الضغط على
السلطات المركزية ودفعها إمّا لتقديم تنازلات أو لاستخدام العنف بشكل أكبر، وفي
كلتا الحالتين تكون هي الكاسبة. وثانياً، لإظهار فشل النظام وضعفه خاصة مؤسساته
القهرية، بشكل يجعل من زيادة تحدّيها أمراً ممكناً بعد إسقاط هيبتها وعدم
الخشية من انتقامها. وثالثاً، لتوجيه أنظار تلك المؤسسات القهرية بعيداً عن
النشاطات التنظيمية تحت الأرض.
من المتعارف عليه، أن أحداث الشغب قصيرة العمر، فقد تستمر لساعات أو لأيام، حسب
طبيعة الإستجابة الأمنيّة، هناك من الدول من يقرّر محاصرة الشغب حتى ينفّس
المشاركون فيه احتقاناتهم ضمن حدود معيّنة، وحين تميل الأمور الى الخطوط
الحمراء أو للبرود، تبدأ مرحلة (تكسير العظام) وبعدها مباشرة تأتي الإستجابة
لمطالب المحتجّين، خاصة إذا كانت متعلّقة بشأن غير استراتيجي. إن مواجهة
الإنفجار العاطفي للجمهور في بداية انطلاقته قد تعطي نتائج سلبية من وجهة نظر
معيّنة، ولكن تركها لتجاوز ما يعتبر خطوطاً حمراء قد يكون كفيلاً بإدامتها
وتبلورها وركوب موجها من قبل السياسيين المعارضين. وربما يكون من أهم أسباب عدم
إستمرار الشغب، مسارعة السلطات لتلبية مطالب المحتجّين، فهي قد تتأخّر ولكنها
حين تدرك أن لا مفرّ من ذلك، بدون المزيد من الشغب والإنفجار تقدم على التنازل.
حدث هذا لشغب لوس أنجليس، وتراجع ثاتشر بشأن ضريبة الرأس، وتراجع أبو عمّار
أمام احتجاجات رفح في مارس 1999، وتراجع الملك حسين عن قرارات إقتصادية مؤلمة
عام 1989، بل ذهب الى أبعد من ذلك لمعالجة جذور المشكلة بإجراء تحوّل سياسي غير
عادي.
فيما يتعلّق بالبعد الخارجي لأحداث الشغب، فإنه في معظم الحالات لا جذور لها
خارجية، ويجب دراستها في إطارها المحلّي. فالقضايا المطروحة محليّة في جذورها
وتأثيراتها ونتائجها عموماً. إنها تستمد زخمها من عوامل داخلية، ولذلك فإن
الحديث عن تآمر خارجي يفتقد الرؤية الصحيحة، لأن الشغب لا يحتاج إشعاله الى
عامل خارجي تحريضي فطبيعته أنه يمثل استجابة فوريّة لحدث محلّي، وآثاره لا
تنعكس خارج الحدود، إلاّ إذا تطوّر الى ما يشبه الثورة. ومن هنا نلاحظ أن مشاعر
الجمهور مختلفة تجاه أحداث الشغب، فالأكثرية تقرّ بصوابية مطالب المحتجّين،
وتندّد بعدم انضباطهم إن حدث حين ينحو المتظاهرون والمحتجون باتجاه تخريب
المنشآت العامّة، اللهم إلاّ إذا تمّ احتواء الجمهور وتغيير مسار الأهداف، وضبط
الحشود بانخراط الكوادر السياسية المعارضة. لعلنا نتذكّر، انتقاد السادات
لأحداث 17، 18 يناير 1977، إذ نعتها بـ (انتفاضة الحرامية) متّخذاً من التخريب
الذي قام به بعض المتظاهرين، منطلقاً لانتقادهم ومبرراً لقمعهم، وإشغالاً للرأي
العام عن الأهداف التي كانت وراء تلك الأحداث.
والخلاصة، إن ما يدعو للتفصيل في هذا الأمر، أن لا يساء تقدير حجم إحباطات
الشارع في المملكة وما يمكن أن تؤدّي إليه. فما يبدو أنّه قلّة حيلة لديه
وافتراض أن السيطرة السهلة باتت من المسلّمات، قد ينقلب بصورة لا تخطر على بال
أحد.. إن الأمور أعقد من ذلك بكثير، واستخدام العنف قد يشعل الفتيل أكثر مما
يخمده.
وحتى لا يكون الحديث مجرد توصيف ونقد، أرى تقديم هذه المقترحات التي أختتم بها
الموضوع:
1 ـ في المجال الثقافي: إقحام ثقافة الإعتدال والتسامح والشفافية في الإعلام
ومناهج التعليم، وخاصة الدينية التي يجب إعادة النظر في محتوياتها، والبدء من
قبل الحكومة بممارسة سياسة التسامح والمساواة بين المواطنين دون النظر
لخلفياتهم وهوياتهم الدينية. ويتطلب الأمر سن قوانين تتيح للأصوات المختلفة
لتعبّر عن نفسها عبر إصدار الصحف والمجلات ووضع ضوابط توسّع من هامش حرية
التعبير من جهة وتجرّم الإعتداء على حقوق الآخرين بالتحريض والقذف وغير ذلك.
وهنا يمكن تفعيل بعض مواد النظام السياسي وشرحها لتكون مرجعية حقيقية عند
الإختلاف. كما يتطلّب الأمر وضع نظام جديد للمطبوعات، وإبعاد وزارة الداخلية من
السيطرة على الإعلام عبر (المجلس الأعلى للإعلام) بحيث لا ترسم سياسة ولا تنتدب
أحداً ليعمل في الصحف مخبراً أو مراقباً، ولا تتعرّض بالعقاب للصحافيين بدنياً
أو معنوياً إلا وفق القانون. كما يقترح تخفيف حدّة الرقابة على المطبوعات
الخارجية، والتي تتسم بالمزاجية والتطرّف في المجالين السياسي والديني، حتى
يفسح المجال للنقد كجزء من الرقابة الشعبية على الجهاز التنفيذي من أجل أداء
أفضل، وتنفيساً للإحتقان. يتطلّب الأمر أيضاً، السماح بالتشكّل الثقافي
والنقابي، والإنفتاح الحكومي على مختلف التيارات الفكرية والثقافية حتى تنأى
بنفسها عن التصنيف والإنحياز لاتجاه فكري محدد. وأخيراً أن تراعى مواضيع الهوية
الوطنية، وتعمّق بشكل عقلائي عبر التعليم والإعلام والممارسة على أرض الواقع،
وهنا يجب تجريم التعرّض للهويات الخاصة دينية أو مناطقية والسماح لتلك الهويات
بالتعبير عن نفسها في الإطار الوطني.
2 ـ في مجال الإقتصاد والخدمات العامة: إن وزارة الداخلية ليست مسؤولة وحدها عن
العنف وتصاعد معدلات الجريمة، وإنما جهاز الدولة بأكمله. فإذا ما فشل وزراء
الإقتصاد والتعليم وجهاز التوظيف والإعلام والخدمات الإجتماعية عن أداء مهماتهم
انعكس ذلك بشكل تلقائي على الأمن، ومن هنا فحلول المشكلة ليست بيد وزارة
الداخلية، التي لا يجب أن تتحمل مسؤولية التوظيف من خلال مجلس القوى العاملة،
بل يفترض إستحداث وزارة للتوظيف تتعاون معها جميع الأجهزة بما فيها وزارة
الداخلية. أيضاً يقترح الإهتمام بموضوعات التعليم والتوظيف والصحة تحديداً،
فهذه المسائل تنضوي على أعمق المشاكل؛ يجب القيام بعمليّة جراحية في هذا
المجال: جامعات ومدارس جديدة، إفساح المجال للجامعات الأهلية ودعمها حتى تقف
على قدميها، وسن أنظمة جديدة واعتماد عقلية مختلفة لحل الإشكالات الناشئة عن
هذه التحوّلات. كما ينبغي حل مشكلة الأراضي وتوزيعها، بسنّ نظام يمنح كل متزوج
جديد قطعة أرض، وتصادر الإقطاعات للصالح العام لبناء خدمات حكومية عليها. أيضاً
سنّ نظام ضرائبي أكثر اعتدالاً يراعي من يسمّون بذوي الدخل المحدود، وإلغاء
كثير من الرسوم على السلع الأساسية. يضاف الى هذا ضبط العمالة الوافدة وأخذ
موضوع السعودة موضع الجدّ خاصة على الشركات الكبيرة.
3 ـ في الميدان السياسي والأمني: يتطلب الأمر إعادة تعريف لمفهوم الأمن
الداخلي، وكذلك العقيدة السياسية والعسكرية للقوات المسلّحة، ووضع حدود معقولة
للصرف عليهما. الجهاز الأمني بطبعه كما في كل الدنيا ميّال لاستخدام الشدّة
والقسوة، وفي غياب الرقابة والإحتجاج القانوني عبر القضاء، تجري الإنتهاكات بحق
المواطنين وربما في بعض الأحيان خلافاً للأوامر الرسمية، ولذا يحتاج هذا الجهاز
الى رقابة ووسائل لتخفيف حجم تجاوزاته. الدستور يفترض تطبيقه على أرض الواقع
وهذا لا يتمّ إلاّ بطرح مسوّدة شرحه ووضع تفاصيل مفرداته، واتخاذه مرجعاً في كل
الأمور، والتحاكم على أساسه، إضافة الى تعديل بعض بنوده بحيث يتماشى مع
التطلعات الشعبية الحاضرة. أما مجلس الشورى فيجب أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون:
انتخابات وإشراك المرأة فيه، ودور حقيقي يجعله جهازاً تشريعاً ممثلاً للجمهور
وليس للحكومة. وأخيراً فإن نظام المقاطعات يحتاج الى إعادة تعريف أهدافه بحيث
يخدم لا مركزية السلطة ويسرّع من عمليّة التنمية لا أن يصبح معيقاً لها. وينطبق
على مجالس المقاطعات ما ينطبق على مجلس الشورى من جهة الإنتخاب، إضافة الى
زيادة صلاحياته حتى لا يكون نسياً منسيّا.
هذه المقترحات كثيرة، بعضها يتطلّب إجراءات فوريّة، وبعضها يتطلّب خططاً لسنين
طويلة. إن أسلوب المسكّنات لا يحلّ مشكلاً بل يؤجّله فحسب، وفي كل الأحوال فإن
هذه المقترحات ليست بجديدة في مجملها، ولكن الجديد هو استقراء الأحوال بدونها.
من يدري، لعلّ بعضها يلفت النظر.
13 ابريل 2002
المصادر
--------------------------------------------------------------------------------
[1] Ted Robert Gurr, Why Men Rebel, p. 317.
[2] T. Skocpol, State and Social Revolution, p. 17.
[3] T. Gurr. Ibid., P. 340.